بنزرت تستحضر مجدها الفينيقي في محاكاة أسطورية لرحلة عمرها 30 قرنًا

في مشهد تاريخي مهيب يعيد إلى الأذهان أمجاد حضارة ضاربة في القدم، شهد ميناء مدينة بنزرت، شمال تونس، محاكاة رمزية لوصول الفينيقيين إلى السواحل التونسية قبل نحو ثلاثة آلاف عام. الفعالية التي نُظّمت في إطار الدورة الرابعة والثلاثين لـ”شهر التراث” تحت عنوان “عودة الفينيقيين”، جمعت بين الفن والتاريخ لتقريب صورة الماضي إلى أذهان الجيل الجديد.
وارتدى المشاركون، من شباب المدينة، أزياء فينيقية تقليدية تعكس ملامح تلك الحقبة، حين كانت بنزرت، المعروفة قديماً باسم “هيبو أكرا”، مدينة ذات طابع فينيقي خالص في لغتها ولباسها وطعامها.
محاكاة درامية تروي فصول التاريخ
تضمنت الفعالية مشهدين رمزيين بعنوان “البحّار بعل حنو” و**”نعمات”**، استعرض من خلالهما المشاركون ملامح الحياة اليومية للفينيقيين، من الملاحة والتجارة إلى الطقوس الغذائية والزراعية، في مشهد بصري حوّل الذاكرة الجماعية إلى واقع نابض.
وقالت الباحثة في الحضارات واللغات القديمة، خولة بنور، إن المحاكاة جسّدت مقاربة علمية فنية تهدف إلى تبسيط التاريخ للجمهور، مشيرة إلى أن كلمة “ملاحو” تعني “البحار” بالفينيقية، في حين تعني “نعمات” الطعام، وتحديدًا القمح، الذي يحتل مكانة مركزية في التراث الزراعي للمنطقة.
من أوتيكا إلى قرطاج.. بدايات فينيقية
وبحسب بنور، فإن الحضور الفينيقي في تونس لا يبدأ بأسطورة “عليسة” مؤسسة قرطاج الشهيرة عام 814 ق.م فقط، بل يعود إلى نحو سنة 1100 قبل الميلاد، حين وصل الفينيقيون أولاً إلى مدينة أوتيكا (أوتيك) كتجّار، ما يجعلها أول محطة حضارية لهم في المنطقة.
وأوضحت الباحثة أن الفينيقيين جاؤوا من بلاد كنعان (سواحل سوريا ولبنان وفلسطين)، حاملين معهم ثقافة زراعية غنية، من بينها زراعة القمح والأشجار المثمرة، بالإضافة إلى إدخال تقنيات معاصر الزيتون التي ظهرت أولاً في مدينة أوغاريت السورية.
قرطاج.. وريثة كنعان وملكة المتوسط
وترى بنور أن قرطاج لم تكن مجرد مدينة، بل وريثة لحضارة كنعان، وامتداد جغرافي وثقافي لها. فقد لعبت المدينة دورًا محوريًا في البحر الأبيض المتوسط، ليس فقط من الناحية التجارية، بل كذلك العلمية، إذ أنجبت شخصيات بارزة مثل العالم الزراعي ماغون القرطاجي، صاحب الموسوعة الزراعية الشهيرة التي ضمّت 28 مجلدًا، واستفادت منها روما لاحقًا في تطوير علوم الفلاحة.
شواهد أثرية تؤكد الجذور الفينيقية
تحتضن ولاية بنزرت اليوم قرابة 40 موقعًا أثريًا فينيقيًا، بحسب المعطيات الرسمية. وتشير الباحثة بنور إلى العثور على قبور تحتوي على فخاريات، وأدوات من العاج والبلور، وحلي، في مواقع متعددة مثل هنشير بني نافع، وكاب زبيب، وماطر. كما تم اكتشاف خزانات مياه وأفران فخار تعود إلى الفترة البونية (بين القرنين الرابع والثاني ق.م).
ويُعدّ موقع أوتيكا من أبرز المعالم الأثرية في المدينة، حيث كان يضم ميناءً نشطًا، قبل أن تُغير ترسبات وادي مجردة من معالمه وتفصله تدريجيًا عن البحر.
“تونيكا”.. الزي الفينيقي يعود إلى الواجهة
في لفتة بصرية جذابة، ارتدى المشاركون خلال الفعالية زي “تونيكا” التقليدي، الذي يتكوّن من قماش مشدود بحزام عند الخصر، ورداء يُلف على الرأس، وهو مستوحى من التماثيل والحفريات البونية. وأشارت حنان الطرودي، المسؤولة عن التنشيط الثقافي بمندوبية الثقافة في بنزرت، إلى وجود تشابه بين هذا الزي وبعض الملابس التقليدية التونسية، ما يعكس امتداد تأثير الزي الفينيقي حتى اليوم.
بعث التاريخ من جديد
بدوره، أكد الباحث في مندوبية الثقافة، فتحي الدريدي، أن مثل هذه الفعاليات تساهم في سد النقص في المصادر التاريخية المكتوبة عبر استنطاق الشواهد الأثرية، وتعيد إحياء الحياة الدينية والتجارية للفينيقيين بأسلوب معاصر يربط الأجيال الحاضرة بماضيهم العريق.
ويُذكر أن “الفترة البونية” تمثل الامتداد التونسي للحضارة الفينيقية، وخصوصًا في قرطاج، التي أصبحت مركزًا تجاريًا وثقافيًا مؤثرًا في غرب المتوسط، ونجحت في تأسيس هوية حضارية متميزة ما تزال آثارها ماثلة حتى اليوم.