سوريا تسعى لإصلاح النظام الضريبي وتجاوز تركة عقود من الامتيازات والمحسوبيات

على مدى سنوات، عانى السوريون من نظام ضريبي وصفه خبراء بأنه غير عادل ومصمم لحماية مصالح النخب التجارية والاقتصادية المرتبطة بالنظام السابق بقيادة بشار الأسد، حيث مكّن هذا النظام أصحاب الثروات من الإفلات من المساءلة، بينما فرض عبئًا ضريبيًا ثقيلًا على صغار التجار والصناعيين، دون معايير واضحة أو عدالة ضريبية. وأدى ذلك إلى موجات هجرة جماعية للصناعيين والتجار، مما فاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد.
وفي مسعى لتجاوز هذه التركة، عقدت لجنة الإصلاح الضريبي، برئاسة وزير المالية محمد يسر برنية، اجتماعها الأول الأسبوع الماضي، عقب الإعلان عن تشكيلها مطلع الشهر الجاري، في خطوة تهدف إلى وضع أسس جديدة لنظام ضريبي حديث ومتوازن.
وزير المالية: النظام الحالي غير قابل للاستمرار
أكد وزير المالية في تصريحاته لوسائل الإعلام عقب الاجتماع أن النظام الضريبي القائم لا يخدم الرؤية الاقتصادية للدولة، ولا يحقق العدالة، ولا يدعم القطاع الخاص أو عجلة الإنتاج الصناعي، مشددًا على ضرورة تغييره بشكل جذري.
وأشار برنية إلى أن اللجنة اتفقت على عدد من المحاور الأساسية للإصلاح، أبرزها:
- تخفيض الشرائح الضريبية.
- تبسيط الإجراءات الضريبية.
- توحيد الضرائب والرسوم.
كما لفت إلى أن الدولة تسعى للتحول من “جهة جباية” إلى “شريك فاعل” للقطاع الخاص، عبر تبني نهج تدريجي في بناء نظام ضريبي عصري يحقق الثقة ويخدم المصالح المشتركة.
خطوات عملية: إلغاء الرسوم وتوحيد النظام
أوضح الوزير أن هناك بالفعل قرارات بإلغاء عدد من الرسوم، وأن العمل جارٍ لتوسيع هذا التوجه، مع توحيد النظام الضريبي ليكون أقل عددًا وأكثر وضوحًا. وشدد على أن الإصلاحات لن تكون آنية أو سطحية، بل طويلة الأمد، لضمان ملاءمتها للواقع الاقتصادي المتغير.
وأكد برنية أن الهدف هو جعل سوريا واحدة من أكثر الدول تنافسية في النظام الضريبي الحديث، من خلال توفير بيئة مشجعة للمستثمرين وتحفيز الإنتاج المحلي.
أدهم قضيماتي: الإصلاح الضريبي مرتبط برؤية اقتصادية بعيدة المدى
من جهته، يرى الخبير الاقتصادي أدهم قضيماتي أن الإصلاحات الجارية تستند إلى دراسات تهدف إلى إعادة تنشيط قطاعات صناعية تقليدية كصناعة النسيج، إلى جانب دعم قطاعات ناشئة مثل التكنولوجيا، رغم ضعف البنية التحتية في هذا المجال.
ويؤكد أن نجاح أي تعديل ضريبي مرهون برؤية الحكومة وخططها الإستراتيجية على المديين المتوسط والطويل، مشددًا على ضرورة أن تستند سياسات تخفيض الضرائب إلى 3 معايير رئيسية:
- حجم الإنتاج المحلي والاعتبارات الموسمية.
- الحالة العامة للاقتصاد، والاستثمارات المتوقعة.
- مستوى الاكتفاء الذاتي من المنتجات المحلية.
ويضيف أن فرض الضرائب يجب أن يكون ديناميكيًا، بحيث تُراجع قيم الضرائب بشكل دوري بما يتلاءم مع الواقع الاقتصادي، مع ضرورة خفض الضرائب في المراحل التي تحتاج فيها البلاد للاستيراد، ورفعها تدريجيًا كلما تحقق الاكتفاء المحلي.
ويضرب مثالًا بقطاع الزراعة، مؤكدًا أن الضرائب فيه يجب أن تختلف باختلاف المحاصيل والمواسم، بما يتماشى مع الطبيعة المتغيرة للاقتصاد.
شراكة عامة–خاصة: الطريق نحو نموذج إداري متوازن
فيما يتعلق بالأثر المتوقع لهذه الإصلاحات على بيئة الأعمال، شدد قضيماتي على ضرورة تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، مشيرًا إلى أنها قادرة على تقليص الهدر في القطاع العام وتقديم نموذج إداري أكثر كفاءة.
واقترح إمكانية تأسيس شركات قابضة يديرها القطاع الخاص بمساهمة رمزية من الدولة، على أن تحصل الأخيرة على نسب من الأرباح، مؤكدًا أن مثل هذا النموذج يمكن أن يعيد تعريف دور الدولة من “جهة جباية” إلى “شريك اقتصادي”.
وأوضح أن تحقيق زيادة في الإيرادات الحكومية دون إرهاق المواطن الضريبي يتطلب القضاء على ثقافة الرشوة والمحسوبيات، وضبط الاقتصاد الوطني من خلال الشفافية والرقابة.
كما أشار إلى أن سوريا تمتلك ثروات باطنية وفرصًا اقتصادية كبيرة، أبرزها ما يتعلق بخطوط الغاز والنفط العابرة للأراضي السورية، والتي يمكن أن تدر إيرادات ضخمة تسهم في تخفيف العبء المالي عن الخزينة.
خلاصة
يتضح أن سوريا تقف اليوم أمام منعطف اقتصادي حساس يتطلب إصلاحًا جذريًا وشاملًا للنظام الضريبي، كمدخل أساسي لإعادة بناء الاقتصاد، وتحقيق بيئة استثمارية مستقرة. ولتحقيق ذلك، لا بد من إرادة سياسية واضحة، وخطط إستراتيجية مدروسة، وشراكة حقيقية مع القطاع الخاص.