تركيا تتنفس الصعداء رغم التصعيد الأميركي: الرسوم الجمركية تهدد قطاع السيارات وتمنح فرصاً لقطاعات أخرى

بينما ترددت أصداء قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية جديدة في أرجاء الاقتصاد العالمي، بدت تركيا أقل المتأثرين بهذا التصعيد، إذ اقتصرت الرسوم الأميركية على الصادرات التركية بنسبة 10% فقط، في حين تجاوزت الرسوم المفروضة على دول كبرى أخرى 25%، وبلغت 50% في بعض الحالات.
وفي الوقت الذي تواجه فيه العديد من الاقتصادات العالمية ارتباكاً حيال السياسات الحمائية الأميركية، تجد أنقرة نفسها أمام مفترق طرق: هل تتعامل مع القرار بوصفه أزمة محتملة، أم تستغله كفرصة نادرة لتعزيز وجودها في السوق الأميركية؟
تبادل تجاري متوازن
ترتبط تركيا والولايات المتحدة بعلاقات اقتصادية متوازنة نسبياً. ووفق بيانات هيئة الإحصاء التركية، بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين حوالي 32.6 مليار دولار خلال عام 2024. وقد صدّرت أنقرة بضائع بقيمة 16.4 مليار دولار إلى السوق الأميركية، ما يمثل نحو 6.2% من إجمالي صادراتها، مقابل واردات أميركية بقيمة 16.2 مليار دولار.
وتنوعت الصادرات التركية إلى الولايات المتحدة لتشمل قطاعات مهمة، على رأسها المواد الكيميائية بقيمة 1.5 مليار دولار، تليها السيارات بـ1.2 مليار دولار، ثم الملابس الجاهزة بـ856 مليون دولار. كما شملت الصادرات سلعاً مثل السجاد والأرضيات (784 مليون دولار)، والمعدات الإلكترونية (774 مليون دولار)، والصلب (628 مليون دولار)، والمنتجات الزراعية المصنعة (429 مليون دولار)، مما يعكس تنوعاً يعزز من قدرة أنقرة على المناورة في وجه التحديات.
قطاع السيارات في دائرة الخطر
رغم انخفاض معدل الرسوم على غالبية القطاعات إلى 10%، فإن قطاع السيارات التركي واجه ضربة قوية مع فرض واشنطن تعريفة جمركية بنسبة 25% على واردات السيارات وقطع الغيار. ويُعد هذا القطاع أحد أعمدة الصادرات التركية إلى السوق الأميركية، إذ بلغت صادراته 1.2 مليار دولار في عام 2024.
وبحسب مجلس المصدّرين الأتراك، احتلت الولايات المتحدة المرتبة التاسعة ضمن أكبر أسواق صادرات السيارات التركية في 2024، ضمن رقم قياسي بلغ 37.2 مليار دولار لصادرات هذا القطاع. إلا أن الترتيب تراجع إلى المركز العاشر في بداية عام 2025، وهو مؤشر على تداعيات الرسوم الجديدة.
من جانبه، حذر رئيس اتحاد مصدري صناعة السيارات في تركيا، باران جيليك، من أن الرسوم الأميركية قد تؤثر سلباً على الشركات التركية، رغم أن معظم الصادرات تتركز في مكونات السيارات وليس المركبات الكاملة.
تنفّس نسبي في قطاعات أخرى
في المقابل، حظيت قطاعات التصدير الأخرى مثل البتروكيميائيات، والنسيج، والألبسة برسوماً مخففة لم تتجاوز 10%، ما أتاح لها هامشاً للمواصلة دون أعباء كبيرة، وهو ما خفف نسبياً من وطأة الإجراءات الأميركية على الاقتصاد التركي.
تحرك دبلوماسي واقتصادي تركي
وفي رد سريع، أعلنت الحكومة التركية عن سلسلة تحركات دبلوماسية تهدف إلى الحد من تأثير القرار الأميركي. فقد صرح وزير التجارة التركي عمر بولات أن بلاده تسعى لمفاوضات مباشرة مع وزارة التجارة الأميركية لتخفيف الرسوم، مشيراً إلى أن الميزان التجاري يصب لصالح الولايات المتحدة بفائض قدره 2.4 مليار دولار.
وأضاف بولات أن زيارته المقررة إلى واشنطن في مايو المقبل ستركز على حضور مؤتمر الأعمال التركي الأميركي، ولقاء كبار المسؤولين الأميركيين لطرح خطة عمل مشتركة تتناسب مع المرحلة الجديدة.
قراءة استراتيجية: فرصة أم تهديد؟
يرى مجلس المصدّرين الأتراك أن بقاء الرسوم عند مستوى 10% يمنح الصادرات التركية فرصة الاستمرار في السوق الأميركية دون عراقيل كبيرة، لا سيما في ظل أن الولايات المتحدة تمثل نحو 6% فقط من إجمالي صادرات تركيا. كما أشار المجلس إلى أن تنوع الأسواق والقطاعات التصديرية يوفر مرونة تمكن من توجيه المنتجات إلى أسواق بديلة عند الحاجة.
من جانبه، اعتبر المحلل الاقتصادي مصطفى أكوتش أن الإجراءات الأميركية، رغم ما تحمله من تحديات، قد تتيح فرصة نادرة لتركيا لتعزيز موقعها في السوق الأميركية، خاصة مع انسحاب بعض المنافسين مثل الصين وكوريا والاتحاد الأوروبي بسبب الرسوم المرتفعة عليهم. لكنه حذر في حديثه للجزيرة نت من أن استغلال هذه الفرصة يجب أن يتم بحسابات دقيقة، حتى لا تُفسَّر الاستفادة التركية الزائدة على أنها استغلال، مما قد يدفع واشنطن إلى تشديد الإجراءات مستقبلاً.
وأشار أكوتش إلى أن لدى تركيا بنية صناعية قوية في مجالات مثل الأجهزة المنزلية والمعدات والسيارات، إلا أن التوسع في السوق الأميركي يتطلب استجابة مرنة من القطاع الخاص، إلى جانب دعم حكومي فعال في الجوانب الترويجية واللوجستية.
اختبار جديد للمرونة التركية
من جهته، يرى الباحث الاقتصادي في جامعة حجي بيرم، حقي إيرول جون، أن الاقتصاد التركي يمتلك قدراً من المرونة مكنه سابقاً من تجاوز أزمة الرسوم الجمركية عام 2018، عبر إعادة توجيه صادراته إلى أسواق بديلة. إلا أن التحدي الحالي، بحسب قوله، أكثر تعقيداً، نظراً لاتساع نطاق الرسوم وتعدد القطاعات المتضررة.
وأوضح إيرول جون أن لتركيا ورقة استراتيجية مهمة لا تقتصر على الاقتصاد، بل تشمل دورها الجيوسياسي كونها عضواً في حلف الناتو، وشريكاً محورياً في قضايا الاستقرار الإقليمي، مما قد يدفع الولايات المتحدة إلى تجنب خطوات قد تضر باقتصادها في هذه المرحلة الدقيقة.
واختتم بالقول إن على تركيا ألا تكتفي بإدارة الأزمة، بل أن تستغل هذه المرحلة لتقوية بنيتها الإنتاجية، وزيادة صادراتها ذات القيمة المضافة، خصوصاً في مجالات التكنولوجيا والصناعات المتقدمة، لبناء اقتصاد أكثر مرونة واستقلالية على المدى الطويل.