اقتصاد

إندونيسيا بين مطرقة التحول العالمي وسندان السباق على المعادن النادرة: فرصة استراتيجية في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية

مع تسارع التحول العالمي نحو السيارات الكهربائية، وتزايد الاعتماد على الأجهزة الإلكترونية، باتت معادن الأرض النادرة عنصراً حيوياً في رسم معالم الجغرافيا الاقتصادية الجديدة. وبينما تتصدر الصين إنتاج هذه المعادن، وتخوض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي صراعات تجارية على تأمين سلاسل التوريد، فتحت هذه المعادلة المعقدة الباب أمام إندونيسيا لتبرز كقوة ناشئة في مجال المعادن الحيوية وصناعة بطاريات السيارات الكهربائية.

الولايات المتحدة في سباق التوريد.. وإندونيسيا خيار إستراتيجي

نظرًا لافتقار الولايات المتحدة إلى مصادر محلية من معادن الأرض النادرة، التي تُستخدم في الصناعات التقنية المتقدمة من السيارات الكهربائية إلى الأقمار الصناعية، تسعى واشنطن جاهدة لتأمين مصادر بديلة وموثوقة. وفي هذا السياق، تبرز إندونيسيا كواحدة من أهم الفرص الإستراتيجية لتقليص الاعتماد على الصين.

وفي تحليل نُشر بمجلة ناشيونال إنتريست، ترى الباحثتان آنا بورغيل وسلمى خليل من جامعة جون هوبكنز الأميركية أن إندونيسيا يمكن أن تلعب دوراً محورياً في إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية للمعادن الأساسية ومكونات البطاريات.

النيكل.. الورقة الرابحة لإندونيسيا

تُعد إندونيسيا اليوم صاحبة أكبر احتياطي عالمي من النيكل، وتحولت خلال العقد الأخير من مصدر للخام إلى مركز إقليمي للتكرير والتصنيع. قرار الحكومة عام 2022 بحظر تصدير النيكل الخام دفع المستثمرين الأجانب لبناء مصانع ومصافي محلية، ما ضاعف عائدات التصدير إلى نحو 30 مليار دولار، خصوصاً مع التركيز على المنتجات ذات القيمة المضافة مثل النيكل الحديدي والفولاذ المقاوم للصدأ.

لكن هذه الطفرة لم تواكبها بدايةً قفزة موازية في قطاع بطاريات السيارات الكهربائية، حيث ركزت الصناعة الإندونيسية على النيكل من “الفئة الثانية” المخصص للصلب، بدلاً من “الفئة الأولى” النقي المطلوب للبطاريات. ونتيجة لذلك، انخفضت صادرات النيكل المرتبط بالبطاريات من 307 ملايين دولار عام 2014 إلى 196 مليون دولار عام 2022.

خطة طموحة لتحويل إندونيسيا إلى قوة صناعية في مجال البطاريات

رداً على هذا التحدي، أطلقت الحكومة الإندونيسية خطة طموحة تهدف إلى دخول قائمة أكبر 3 دول منتجة لبطاريات السيارات الكهربائية بحلول عام 2027، مع قدرة إنتاجية مستهدفة تبلغ 140 غيغاواط/ساعة بحلول 2030. وقدمت حوافز ضريبية سخية لجذب الاستثمارات الأجنبية، وهو ما جعل الشركات الصينية تتصدر قائمة المستثمرين، تليها الكورية الجنوبية واليابانية.

كما بدأت إندونيسيا فعليًا في تشغيل منشآت حديثة لتقنية “الاستخلاص الحمضي عالي الضغط (HPAL)”، ما مكنها من سد فجوة حرجة في سلسلة التوريد العالمية من خلال إنتاج مواد كيميائية صالحة للاستخدام في البطاريات. وبحلول 2023، أطلقت 6 مشاريع جديدة بهذه التقنية، مما يجعلها مصدرًا موحدًا للنيكل من التعدين حتى التصنيع.

غياب أميركي مقلق.. وتهديدات بيئية لا يمكن تجاهلها

ورغم أن شركات أميركية مثل تسلا تعتمد على النيكل والكوبالت الإندونيسي، فإن المشاركة الأميركية في تطور هذا القطاع الحيوي ما تزال محدودة، ما يهدد بخسارة فرصة استراتيجية لتقليل الفجوة مع الصين، التي تهيمن على نحو 90% من سلسلة توريد بطاريات الليثيوم في العالم.

لكن مع هذه الطموحات، تبرز تحديات بيئية خطيرة، أبرزها اعتماد المصانع على الكهرباء المولدة من الفحم، وهو ما يرفع الانبعاثات الكربونية لكل طن من النيكل المعالج إلى 58.6 طناً من ثاني أكسيد الكربون، ما يعرض الصناعة لضغوط من دعاة الاستدامة والأسواق المتقدمة، وخاصة أوروبا واليابان.

فرصة للولايات المتحدة لبناء شراكة “خضراء” مع إندونيسيا

في ظل هذه المعطيات، تقترح الباحثتان بورغيل وخليل أن تقدم الولايات المتحدة دعماً تقنياً لإندونيسيا من أجل تطوير صناعة “النيكل الأخضر” منخفض الكربون، عبر دمج مصادر الطاقة النظيفة، واستخدام تقنيات احتجاز الكربون، وتعزيز الابتكار في بدائل الأفران التقليدية.

هذه الشراكة قد تكون مفتاحًا لتقليص الاعتماد الغربي على الصين وروسيا، وبناء شبكة إمداد أكثر مرونة وتنوعًا، مع الامتثال للمعايير البيئية التي ستشكل مستقبل التجارة العالمية.

خلاصة

إندونيسيا لم تعد مجرد مصدر للموارد، بل باتت لاعبًا صاعدًا في سلاسل القيمة العالمية للطاقة النظيفة. تجاهل واشنطن لهذا التحول قد يُفقدها التأثير في تحديد معايير وتوجهات واحدة من أهم الصناعات في القرن الحادي والعشرين. وعلى الولايات المتحدة أن تدرك أن ساحة التنافس الجيو-اقتصادي انتقلت من مناجم النيكل إلى المصانع الذكية والمستدامة في قلب جنوب شرق آسيا.

زر الذهاب إلى الأعلى