نوكيا.. حين تحكي التكنولوجيا قصة أمة

في وعي الفنلنديين، لا تُعد نوكيا مجرد شركة اتصالات، بل تُجسد سردية وطنية عميقة، بدأت كصناعة ورقية على ضفاف نهر، ثم تحوّلت إلى جذر ضارب في عمق الهوية الفنلندية. إنها قصة وطن قرر أن يزرع التكنولوجيا كما يزرع أشجار غاباته: بالرعاية، والبُعد الاستراتيجي، والارتباط العاطفي بالتجذر في الأرض.
نشأت نوكيا عام 1865 كمصنع للورق على ضفاف نهر “نوكيا فيرتا”، ولم تولد من شريحة إلكترونية، بل من شجرة. ومن الورق إلى المطاط، فالكابلات والأحذية، كانت تتنقل بين الصناعات بحثًا عن جوهر موحّد: “الاتصال”. وفي نهاية القرن العشرين، وجدت غايتها ودخلت عالم الهواتف المحمولة، لا كمجرد شركة تقنية، بل كممثل لصوت فنلندا وهويتها في العالم الرقمي.
“نصل الناس”: شعار تحوّل إلى بيان وطني
في التسعينيات، بينما كان العالم يخطو خطواته الأولى في عصر الاتصال المحمول، كانت نوكيا تضع بصمتها على كل هاتف برسالتها “Connecting People”، والتي لم تكن مجرد شعار تسويقي، بل إعلانًا ضمنيًا عن نية فنلندا أن تقود العالم عبر تكنولوجيا ترتبط بالقيم والهوية.
وبحلول عام 1998، تصدّرت نوكيا المشهد العالمي كأكبر مُصنّع للهواتف المحمولة، متجاوزة موتورولا، ووصلت حصتها السوقية إلى أكثر من 40% بحلول عام 2006. تجاوزت مكانتها الطابع الاقتصادي لتصبح ظاهرة اجتماعية وثقافية، ومكونًا أساسيًا في الاقتصاد الفنلندي؛ إذ شكلت في ذروتها نحو 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي، وأسهمت بما يقارب 22% من إجمالي الصادرات، و23% من ضرائب الشركات في فنلندا.
كما كان لها أثر مباشر في جذب المواهب، حيث استقطبت خريجي كليات الهندسة، ووفّرت وظائف لأكثر من 132 ألف موظف حول العالم، غرسوا روح نوكيا في مختلف القطاعات.
ومن أبرز إنجازاتها، إطلاق الهاتف الأسطوري “نوكيا 1100” عام 2003، الذي بيع منه أكثر من 250 مليون وحدة، ليصبح الهاتف الأكثر مبيعًا في تاريخ الاتصالات، متفوقًا على جميع الهواتف الذكية الحديثة، رغم بساطته التي تجسدت في بطارية تدوم لأيام، وهيكل صلب، ووعدٍ بالثقة.
السقوط.. حين تأخّرت الإجابة على سؤال المستقبل
لم يكن سقوط نوكيا ناتجًا عن ضعف المنتج، بل عن تأخرها في إدراك أن الهاتف لم يعد مجرد وسيلة اتصال. ففي الوقت الذي بدأت فيه آبل بصياغة المستقبل عبر شاشات اللمس، تمسكت نوكيا بأزرارها ونظام “سمبيان” التقليدي، ما جعلها غير قادرة على مجاراة البساطة والأناقة التي قدّمتها أنظمة “iOS” و”Android”.
وتأخرت في التحوّل الجريء، فدخلت في شراكة متأخرة مع مايكروسوفت، انتهت ببيع قسم الهواتف بالكامل عام 2013، لتطوي بذلك صفحة من تاريخها، وتغيب عن جيوب المستخدمين، وتنتقل إلى ذاكرتهم.
العودة.. بقيادة مهاجر هندي اسمه راجيف سوري
عندما خفت نجم نوكيا، لم يكن السؤال متى تعود، بل من يجرؤ على إعادتها؟ والإجابة جاءت من خارج الدائرة التقليدية: رجل هندي يدعى راجيف سوري.
تسلّق سوري سلم القيادة بهدوء حتى أصبح في 2014 أول رئيس تنفيذي غير فنلندي لنوكيا. لم يكن مهندسًا للأجهزة، بل استراتيجيًا فهم أن المستقبل يكمن في بناء الشبكات، وليس في أجهزة تُستبدل كل عام.
وفي عام 2015، قاد سوري استحواذ نوكيا على شركة “الكاتل-لوسينت” الفرنسية، في واحدة من أعقد عمليات الاندماج، ليضم تحت جناح نوكيا مختبرات “بيل لابس” التي أنجبت 13 عالماً حائزًا على جائزة نوبل. لم يكن ذلك مجرد توسع تجاري، بل إعلانًا هادئًا أن نوكيا قررت كتابة مستقبلها من خلف الكواليس، من بنية الشبكات لا من سطح الشاشات.
الجيل الخامس.. السباق نحو الثقة
في عالم أصبحت فيه الشبكات الحدود الحقيقية بين الدول، دخلت نوكيا سباق الجيل الخامس (5G) كمنافس يعتمد على الشفافية والثقة، مقابل شركات مثل هواوي التي أثارت مخاوف أمنية وسياسية في الغرب.
وبينما تتسابق الشركات على السرعة، تراهن نوكيا على القيم؛ فقد أنفقت أكثر من 3.1 مليار يورو على البحث والتطوير عام 2024، لتُصبح لاعبًا رئيسيًا في مشاريع 5G في أوروبا وأميركا الشمالية وآسيا. وتُقدّم شبكاتها كحل موثوق، شفاف، وخالٍ من شبهات المراقبة.
نوكيا.. من الجيب إلى البنية التحتية
لم تعد نوكيا في جيب المستخدم، لكنها أصبحت في قلب البنية التحتية العالمية: في القطارات التي تصل بدقة، في المستشفيات التي لا تحتمل أخطاء اتصال، في المدن التي تحلم أن تصبح ذكية دون أن تفقد إنسانيتها.
في فنلندا، حيث تحيا الأشجار حتى بعد سقوطها، تعلّمت نوكيا سر البقاء: لا تقاوم التغيير، بل كن جزءًا منه. لم تعد ظاهرة استهلاكية، بل أصبحت جزءًا من منظومة لا تُرى، لكنها تدعم كل شيء.
نوكيا.. الجذر الذي لا يُرى لكنه يُبقي الشجرة حيّة
قصة نوكيا ليست مجرد تاريخ شركة، بل شهادة على تحوّل وطن، وعلى أن التكنولوجيا ليست فقط ما نراه في أيدينا، بل ما يُبنى في الخفاء. لقد غادرت المشهد السطحي لتعود إلى ما تُجيده: أن تكون الجذر الخفي الذي يمنح الحياة للشبكات، كما تفعل الغابات في أرضها.