الأخبار الدولية

التحالفات المتقلبة في جنوب آسيا.. واشنطن بين نيودلهي وإسلام آباد

منذ انتهاء الاستعمار البريطاني لشبه القارة الهندية، شهدت تحالفات الولايات المتحدة مع دول جنوب آسيا تقلبات مستمرة، خاصة مع الهند وباكستان، في محاولة دائمة للحفاظ على توازن دقيق في العلاقات بين الجانبين. غير أن هذا التوازن بات مهددًا بشكل جدي، مع تزايد احتمالات اندلاع صراع مسلح جديد بين الدولتين النوويتين، في وقتٍ كانت فيه إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تأمل في تركيز جهودها على مواجهة التحدي الإستراتيجي القادم من الصين، لكن الأزمات المتنقلة في العالم لم تترك له فرصة لذلك.

فمنذ استقلال الهند وباكستان في أغسطس/آب 1947، اشتعلت بينهما أربع حروب دامية، كانت ثلاث منها بسبب النزاع المستمر حول إقليم كشمير، بينما لم تهدأ الاشتباكات الحدودية منذ ذلك الحين، ما جعل من كشمير واحدة من أكثر المناطق توترًا في العالم.

وفي 22 أبريل/نيسان الجاري، وقع هجوم مسلح في الجزء الخاضع للإدارة الهندية من كشمير، أسفر عن مقتل 26 مدنيًا وإصابة 17 آخرين، بالقرب من مدينة بهلغام السياحية في وادي بايساران، في واحد من أكثر الهجمات دموية منذ هجمات مومباي عام 2008. وقد تبنت “جبهة المقاومة” المسؤولية عن الهجوم، وهي جماعة يُعتقد بارتباطها بـ”عسكر طيبة”، التي تقول نيودلهي إن جهاز الاستخبارات الباكستاني يدعمها.

أعقب الهجوم موجة تصعيدية خطيرة بدأت في 23 أبريل/نيسان، كان أبرزها إعلان وزير الخارجية الهندي تعليق العمل بمعاهدة تقاسم مياه نهر السند، الموقعة عام 1960، والتي تضمن تدفق المياه إلى باكستان. وردت إسلام آباد محذرة من أن أي انقطاع في المياه سيُعد “عملاً عدائيًا”، مؤكدة استعدادها للرد بكل قوة.

في اليوم نفسه، أغلقت باكستان مجالها الجوي أمام الرحلات الهندية، وعلّقت كافة أشكال التبادل التجاري، حتى تلك التي تمر عبر دول وسيطة، ثم تبادلت القوات المسلحة في كلا البلدين إطلاق النار على امتداد خط السيطرة في كشمير لثلاثة أيام متتالية.

ورغم أن الهند وباكستان دأبتا تاريخيًا على ضبط تصعيدهما بما لا يصل إلى حرب شاملة، فإن وتيرة التصعيد الأخيرة ترفع من خطر انزلاق الأوضاع إلى مواجهة مباشرة قد تُخل بتوازن القوى في جنوب آسيا، وهي منطقة ذات أهمية محورية للولايات المتحدة في صراعها الإستراتيجي مع بكين.

تحولات واشنطن في جنوب آسيا.. من الحرب الباردة إلى ما بعد 11 سبتمبر

تُقرأ ديناميات السياسة الأميركية تجاه جنوب آسيا من خلال مرحلتين فاصلتين في التاريخ الحديث: الأولى هي حقبة الحرب الباردة، والثانية ما بعد هجمات 11 سبتمبر 2001.

في ظل الحرب الباردة، أعلنت الهند التزامها بمبدأ عدم الانحياز، لكنها مالت فعليًا إلى الاتحاد السوفياتي، مدفوعة بتاريخها الاستعماري ونظرة حزب المؤتمر الحاكم المتوجسة تجاه القوى الغربية. في المقابل، رأت باكستان في التقارب الهندي السوفياتي تهديدًا وجوديًّا، ما دفعها إلى التحالف مع الولايات المتحدة باعتباره ضرورة إستراتيجية.

إلى جانب ذلك، أدت التوترات الصينية-السوفياتية إلى تقارب بين بكين وواشنطن، ما جعل الصين تنظر إلى كل من الهند والاتحاد السوفياتي كخصمين محتملين، ووجدت في باكستان شريكًا طبيعيًا في مواجهة هذا التحدي المزدوج.

وفي عام 1979، مع الغزو السوفياتي لأفغانستان، شعرت باكستان بأنها مطوقة من جميع الجهات: من الهند شرقًا، والسوفيات شمالًا وغربًا. ورأت الولايات المتحدة أيضًا في التوسع السوفياتي تهديدًا مباشرًا لمصالحها، خاصة بعد خسارتها حليفها الإيراني إثر الثورة الإسلامية. فتوحدت واشنطن وإسلام آباد في دعم الحركات الجهادية التي حاربت السوفيات في أفغانستان.

غير أن نهاية الحرب الباردة لم تُنهِ تعقيدات المشهد. فقد بقيت باكستان ترتبط بعلاقات وثيقة مع النظام الإسلامي في كابول، في حين أن الولايات المتحدة فقدت اهتمامها الإستراتيجي بأفغانستان إلى حين وقوع هجمات 11 سبتمبر، التي دفعت واشنطن إلى الضغط على باكستان للمشاركة في الحرب على طالبان، رغم حساسية الوضع الداخلي الباكستاني وتنامي المعارضة الشعبية لذلك.

لم تُقدم إسلام آباد دعمًا قويًّا لأي من طرفي الحرب، ما أحدث شرخًا في علاقاتها مع واشنطن، ظل يتعمق مع الوقت.

الهند.. من الحذر إلى التحالف مع واشنطن

في موازاة ذلك، كانت الهند تعيد تموضعها في النظام الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وبما أن الصين باتت خصمًا مشتركًا لكل من الهند والولايات المتحدة، فقد اقترب الطرفان من بعضهما، وبدأت ملامح شراكة إستراتيجية تنمو، قاعدتها المشتركة: احتواء الطموح الصيني.

غير أن واشنطن لا ترغب أيضًا في أن تتحول الهند إلى قوة إقليمية مهيمنة، ولذا فإن دعمها المستمر لباكستان يُعد من أدواتها لضمان توازن ثلاثي بين الصين والهند وباكستان، يمنع أيًّا من هذه القوى من الانفراد بالهيمنة الإقليمية.

تحالف إستراتيجي محفوف بالشكوك

على مدار العقدين الأخيرين، رسّخت الولايات المتحدة شراكتها مع الهند، ودمجتها ضمن التحالف الأمني الرباعي (QUAD) مع أستراليا واليابان، لمواجهة النفوذ الصيني في المحيطين الهندي والهادئ.

كما أطلقت واشنطن مبادرات ثنائية مع نيودلهي مثل “مبادرة التكنولوجيا الحرجة”، وشراكة I2U2، التي تشمل إسرائيل والإمارات، وتستهدف التعاون في مجالات الأمن الغذائي والطاقة والتكنولوجيا.

ومع ذلك، لا تزال العلاقة بين البلدين تحمل قدرًا من التوتر والتباين. فقد رفضت الهند الانضمام للعقوبات الغربية على روسيا بعد غزوها أوكرانيا، متعاطفة مع المخاوف الروسية من توسع الناتو. كما عبّرت عن استيائها من دعم واشنطن لحكومة بنغلاديش الجديدة، التي أطاحت بحليفتها الشيخة حسينة، وامتنعت سابقًا عن المشاركة في الغزو الأميركي لأفغانستان.

الهند، رغم انخراطها في التحالفات الغربية، لا تزال تسعى للحفاظ على دورها القيادي في دول الجنوب العالمي، من خلال تحالفات مثل “البريكس” ومنظمة “شنغهاي للتعاون”، التي تهدف إلى تقويض الأحادية الأميركية.

زر الذهاب إلى الأعلى