سوريا بعد سقوط النظام: أول تحويل دولي عبر “سويفت” ومساعٍ حكومية لإعادة هيكلة الاقتصاد المنهك

شهد القطاع المصرفي السوري تطوراً لافتاً بعد سنوات من العزلة، حيث أعلن مصرف سوريا المركزي مؤخراً تنفيذ أول تحويل مالي دولي مباشر عبر شبكة “سويفت”، في خطوة تمثل بداية لعودة دمشق إلى النظام المالي العالمي. ونقلت وكالة رويترز أن حاكم المصرف عبد القادر الحصرية وجه دعوة رسمية إلى البنوك الأميركية لإعادة العلاقات المصرفية مع سوريا، بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد.
وتأتي هذه الخطوة عقب رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية عن سوريا، والتي فُرضت منذ عام 2011 رداً على قمع النظام السابق للاحتجاجات الشعبية، وهي من أشد أنظمة العقوبات التي عرفها العالم خلال العقود الماضية.
إرث ثقيل واقتصاد منهك
ورغم الانفراجة السياسية، لا تزال سوريا تواجه تحديات اقتصادية هائلة خلفها النظام السابق، الذي انتهج سياسات قائمة على الفساد والاحتكار ونهب الثروات العامة، ما أدى إلى تدمير مؤسسات الدولة واستنزاف مواردها.
وتشير دراسة نشرها “مركز جسور للدراسات” في أكتوبر/تشرين الأول 2024 إلى أن النظام البعثي حافظ على واجهة اشتراكية شكلية، استخدمها كأداة لتكريس نفوذ عائلة الأسد والمقربين منها. فقد تم احتكار موارد الدولة وتحويلها إلى ملكيات شبه خاصة لعائلة الأسد، خاصة آل مخلوف الذين سيطروا على قطاعات الاتصالات والمصارف والعقارات.
وفي سياق متصل، أكد الباحث محمد صارم في دراسة لـ”مركز حرمون للدراسات المعاصرة” أن الفساد كان البنية الأساسية للاقتصاد السوري، وكان المحرك الفعلي لسياسات النظام الاقتصادية، مما أدى إلى تآكل هيكل الدولة المالي والإداري بشكل تدريجي.
الحرب وتدمير البنية الاقتصادية
منذ اندلاع الثورة، وجّه النظام السابق مقدرات الدولة نحو تمويل آلة الحرب، بحسب ما أظهرته دراسة للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وقد تحولت النفقات العسكرية إلى المكون الأكبر في الميزانية على حساب القطاعات التنموية، مما أدى إلى تراجع إنتاج النفط والسياحة والزراعة، وهبوط كبير في الإيرادات الضريبية.
وقال الخبير الاقتصادي خالد التركاوي للجزيرة نت إن “أخطر ما فعله النظام هو تحويل الاقتصاد الإنتاجي إلى اقتصاد حرب، حيث خُصصت المصانع والمستشفيات والموارد العامة لخدمة الجبهة”، مشيراً إلى أن ذلك تسبّب في هروب رؤوس الأموال وتفكيك البنية الصناعية.
كما أوضح أن عشرات الآلاف من رجال الأعمال والتجار غادروا البلاد، بعد فرض المحاصصة عليهم من قبل النظام السابق خلال الحرب، ما أدى إلى انهيار الجهاز الإنتاجي وتراجع الدخل القومي.
تعافي بطيء وتحديات كبرى
بحسب تقرير سابق لـ”واشنطن بوست”، فإن الاقتصاد السوري فقد نحو 85% من قيمته خلال 12 عاماً، حيث تراجع الناتج المحلي الإجمالي من 67.5 مليار دولار عام 2011 إلى 9 مليارات دولار عام 2023. وتشير التقديرات إلى أن سوريا تحتاج إلى أكثر من عقد من الزمن للوصول إلى مستويات ما قبل الحرب.
وأشارت دراسة لمركز حرمون إلى أن التحدي الاقتصادي الأبرز يكمن في إعادة تشغيل الموارد النفطية وتطوير الزراعة واستعادة رأس المال البشري، بالإضافة إلى تعزيز المشاركة المجتمعية وإعادة بناء البنى التحتية.
وتلفت الدراسة التي أعدها الباحث عبد الناصر الجاسم إلى أهمية استقطاب الكفاءات المهاجرة، وتهيئة مناخ استثماري يستند إلى الشفافية وتحديث البنية الإدارية، بهدف ترميم الاقتصاد الوطني.
خطوات حكومية ومبادرات إصلاحية
في هذا الإطار، أعلنت الحكومة السورية الجديدة سلسلة من المبادرات لإعادة بناء الاقتصاد، شملت خطة لتسريح نحو ثلث موظفي القطاع العام، وخصخصة أكثر من 100 مؤسسة خاسرة، إضافة إلى إلغاء “مؤسسة التجارة الخارجية” وعدد من المجالس الاقتصادية القديمة بهدف تسهيل التجارة ورفع كفاءة الأداء.
كما تبنّت الحكومة نهج “اقتصاد السوق التنافسي”، مع إصدار تعريفة جمركية جديدة لحماية الصناعات الوطنية، وتحديث النظام الضريبي، وإصدار عفو مالي لجذب الاستثمارات الداخلية والخارجية.
رغم هذه الإجراءات، لا تزال أزمة الكهرباء مستمرة، حيث لم تنجح الاتفاقية الموقعة مع قطر في إنهاء الانقطاعات المتكررة، وسط وعود حكومية بإطلاق أضخم مشروع وطني للطاقة في تاريخ سوريا من قصر الشعب في دمشق.
تحديات الفساد والانقسام الاقتصادي
تشير تقارير متكررة إلى استمرار الكشف عن ملفات فساد ضخمة منذ سقوط النظام، في وقت تحاول فيه الحكومة الجديدة التعامل مع منظومة اقتصادية متشظية ترسخت في مناطق النفوذ المختلفة خلال الحرب، مما أدى إلى تعددية في الأنماط الاقتصادية وتقطّع في سلاسل القيمة الوطنية.
ووفق ورقة بحثية لمركز عمران للدراسات، فإن إنعاش الاقتصاد يتطلب توحيد السياسات الاقتصادية، وبناء مؤسسات رقابية قوية، وتجاوز آثار “الاقتصاد السياسي” الذي خلّفه النظام السابق.
في الختام
رغم ما تحقق من خطوات أولية نحو التعافي، تبقى مهمة إعادة بناء الاقتصاد السوري شاقة وتتطلب دعماً دولياً شاملاً، ورؤية اقتصادية مستدامة تضع مصلحة الشعب في صلب أولوياتها. ويبدو أن إعادة الثقة بين المواطن والدولة ستكون العامل الحاسم في مستقبل البلاد، بعد عقود من التهميش والقمع الاقتصادي.