سباق الهيمنة على الذكاء الاصطناعي: الصين تتحدى التفوق الأميركي

لا تزال الصين تبهر العالم بإنجازاتها المتسارعة، لا سيما في المجال التكنولوجي، حيث فرض نموذج الذكاء الاصطناعي الجديد “ديب سيك” (Deep Seek) نفسه بقوة على الساحة، ليصبح محور اهتمام الأوساط التقنية خلال الأيام الماضية.
لم يكن هذا النموذج مجرد إضافة عابرة، بل مثَّل تحديًا حقيقيًا لنظيره الأميركي “شات جي بي تي” (Chat GPT)، مما دفع الأخير إلى مواجهة منافسة غير مسبوقة. ورغم أنه من المبكر الجزم بأن النموذج الصيني تفوق تمامًا على نظيره الأميركي، إلا أن “ديب سيك” قدّم أداءً استثنائيًا، سواء من حيث الكفاءة أو السرعة التي دخل بها إلى المشهد العالمي، ما يعكس التحولات العميقة التي يشهدها قطاع الذكاء الاصطناعي.
ديب سيك وستارغيت: صراع تكنولوجي عالمي
إن الجدل الذي أثاره النموذج الصيني الجديد والقلق الذي سببه لصناع القرار والأسواق يعكسان حقيقة مفادها أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تقنية مساعدة، بل أصبح رأس حربة في الصراع بين الولايات المتحدة والصين.
في هذا السياق، كشفت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن استراتيجية جديدة لمواجهة التفوق الصيني تحت اسم “مشروع ستارغيت” (Star Gate)، وهو مشروع يهدف إلى الحفاظ على الهيمنة التكنولوجية الأميركية وإعاقة تقدم الصين نحو الصدارة.
اللافت أن اختيار الاسم يحمل دلالات تاريخية، إذ يعيد إلى الأذهان مبادرة “حرب النجوم” (Star Wars) التي أطلقها الرئيس رونالد ريغان في الثمانينيات لمواجهة الاتحاد السوفياتي عبر التفوق التكنولوجي في المجال الفضائي. واليوم، يتكرر المشهد بصيغة جديدة، حيث لم يعد الصراع مقتصرًا على الفضاء الجغرافي أو العسكري، بل أصبح يدور حول “التكنو-سياسة”، حيث يُعاد تشكيل موازين القوى العالمية عبر التفوق التكنولوجي.
معادلة معقدة: كيف تجاوزت الصين العقبات؟
تواجه الصين تحديًا كبيرًا في تطوير نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة بسبب الهيمنة الأميركية على صناعة معالجات الذكاء الاصطناعي، التي تسيطر عليها شركات مثل “إنفيديا” (Nvidia). وقد فرضت واشنطن قيودًا صارمة لمنع تصدير هذه الشرائح المتطورة إلى الشركات الصينية، مما شكل عقبة رئيسية أمام طموحات بكين التكنولوجية.
ومع ذلك، لم تكن هذه العقبة كافية لوقف التقدم الصيني، حيث تمكنت الشركات الصينية من التغلب عليها عبر ابتكار تقنيات تدريب جديدة مثل “التكميم” (Quantization) و”التقطيع التدريجي” (Sparse Training)، مما خفّض استهلاك الذاكرة والطاقة دون المساس بجودة النموذج. وكنتيجة لذلك، أصبحت النماذج الصينية أكثر كفاءة بمرات عديدة، إذ استخدمت 1% فقط من الموارد التي تعتمد عليها شركات كبرى مثل “أوبن إيه آي” (Open AI) و”مايكروسوفت” و”غوغل”.
لكن المفاجأة الأكبر لم تكن فقط في قدرة الصين على تطوير هذه النماذج، بل في النهج الذي تبنّته بعد تحقيق هذا الاختراق. فبدلًا من احتكار التكنولوجيا، قررت الشركات الصينية إتاحة نماذجها كمصدر مفتوح، مما جعل هذه التقنيات متاحة لأي جهة، سواء كانت أكاديمية أو صناعية، دون قيود. هذا التحول وضع شركات مثل “أوبن إيه آي” في موقف حرج، حيث أصبح هناك بديل مجاني وأكثر كفاءة، مما قد يعيد تشكيل سوق الذكاء الاصطناعي بالكامل.
نتيجة لهذا التطور، شهدت السوق التكنولوجية في الولايات المتحدة انخفاضًا حادًا في قيمتها، حيث فقدت شركات التقنية الأميركية ما يقارب تريليوني دولار من قيمتها السوقية، في حين تكبدت “إنفيديا” خسائر بنحو نصف مليار دولار.
الهيمنة التكنو-سياسية: هل يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل النظام العالمي؟
عبر التاريخ، لم يقتصر التنافس بين القوى العظمى على المواجهات العسكرية أو سباقات التسلح التقليدية، بل كان دائمًا سباقًا للهيمنة على المستقبل من خلال التفوق التكنولوجي. فمن المدافع العثمانية التي مكّنت من فتح القسطنطينية، إلى الأسطول البحري البريطاني الذي سيطر على التجارة العالمية، وصولًا إلى سباق الفضاء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كان امتلاك التكنولوجيا المتقدمة مفتاح التفوق الجيوسياسي.
اليوم، يعيد الذكاء الاصطناعي رسم ملامح هذا الصراع، حيث لم تعد القوة تُقاس بعدد الجيوش أو الأسلحة، بل بمدى القدرة على السيطرة على البيانات والخوارزميات. وهنا يأتي “مشروع ستارغيت” ليكون تجسيدًا لهذه الديناميكية الجديدة، حيث يمثل رهانًا استراتيجيًا للولايات المتحدة للحفاظ على ريادتها في هذا المجال.
المشروع، الذي تبلغ قيمته نصف تريليون دولار، يتجاوز كونه استثمارًا اقتصاديًا، إذ يُعد خطوة جيوسياسية تهدف إلى تأمين التفوق الأميركي في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي. فمن خلال توظيف قدرات “أوبن إيه آي” البحثية، واستغلال إمكانيات “أوراكل” السحابية، واستثمار “سوفت بنك” المالي، تسعى واشنطن إلى تسليح الذكاء الاصطناعي ودفعه إلى صدارة التنافس مع الصين.
لكن هل سيكون مشروع “ستارغيت” كافيًا لإبقاء الولايات المتحدة في موقع الهيمنة؟ أم أن الصين ستتمكن من قلب المعادلة من خلال استراتيجيات جديدة قد تجعلها تقود العصر الرقمي القادم؟ وما مدى تأثير هذه المنافسة على مستقبل النظام العالمي؟
الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة تقنية، بل أصبح أحد أهم العوامل المحددة لمستقبل القوى العظمى، ومن الواضح أن معركة التفوق التكنولوجي بين واشنطن وبكين لم تصل إلى محطتها الأخيرة بعد.