ثقافة

ربيع 2009 نوبة تطبيع تكشف عورة مثقفي الحظيرة

في حال رغب كاتب سيرة تفصيلية في تتبع مسار العمل الوظيفي لوزير الثقافة المصري السابق، فاروق حسني، سيجد تحديًا كبيرًا، حيث يتطلب ذلك الاستعانة بخبراء في مجالات غير تقليدية، مثل الفنانين السيركيين. إنها مهمة خطيرة تتطلب تدريبًا شاقًا للعقل والجسم، بالإضافة إلى مرونة قصوى ودقة متناهية في التنظيم والتوقيت. في هذه المجالات، يجب التحلي بالحس الدقيق واتخاذ القرارات بسرعة ودقة، مع التنبؤ بالمواقف والتصرف بشكل فوري دون الاعتماد على إشارات خارجية.

تعد حياته المهنية مثالية لتجسيد مفهوم الحروب الدقيقة والدهاء، حيث واجه تحديات كبيرة بدءًا من توليه منصب الوزير، حيث أثار اختياره جدلاً كبيرًا وصدم الكثيرين. ومنذ البداية، اعتمد حسني استراتيجيات دقيقة وتوازنات سياسية مدروسة استفاد منها في حياته المهنية بشكل عام وفي وزارته بشكل خاص. ولم يكن لديه خيار سوى أن يواجه التحديات بذكاء وحنكة، واستطاع أن يحقق النجاحات رغم كل العراقيل.

على مر السنوات، واجه حوادث وتحديات مختلفة، بما في ذلك الثورة التي اندلعت في يناير 2011، حيث كان عليه التعامل مع تغييرات جذرية في البلاد. وعلى الرغم من التحديات، استمر في تقديم الأداء بشكل ممتاز، مما جعله يحظى بالتقدير والاحترام من قبل الجميع.

ومع ذلك، لم يكن مساره المهني خاليًا من الجدل، فقد تعرض لانتقادات واتهامات متعددة، بما في ذلك تهم حول تورطه في قضايا مالية، إلا أنه تمكن دائمًا من تجاوز هذه الاتهامات بشكل مهني ودون أي تأثير على سمعته العامة.

بالإضافة إلى ذلك، كان له مواقف واضحة فيما يتعلق بالتطبيع مع إسرائيل، حيث رفض بشكل قاطع أي محاولة للتطبيع ودافع عن مبادئه بحزم وصراحة، مما جعله محل تقدير كبير من قبل المثقفين والنخب السياسية في مصر.

باختصار، فإن مسار حياة فاروق حسني يمثل نموذجًا بارزًا للحكمة والدهاء في التعامل مع التحديات المختلفة، وتحقيق النجاح رغم كل الصعوبات التي قد تواجهها في الطريق.

ليس باسمنا

بيان صدر عن سفارة النمسا، الراعية لحفل موسيقي بالتعاون مع وزارة الخارجية الإسبانية، أثار انتقادات حادة بسبب غياب أي إشارة للاحتلال الإسرائيلي، بالرغم من مضي ستة عشر عامًا على اتفاقية أوسلو، وتجاهل حصار جيش الاحتلال للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عام 2002. البيان أيضًا استخدم صيغة “الشرق الأوسط” بطريقة غير دقيقة، حيث يمكن أن تشمل هذه الصيغة مشكلات واحتلالات متعددة منها فلسطين.

على الرغم من أن البيان لم يشير إلى انتماء الموسيقي الإسرائيلي بارنبويم إلى “الذين ينادون بحل سلمي لمشكلة الشرق الأوسط”، إلا أنه يثير الاستياء بسبب عدم تناوله للقضية الفلسطينية بما يلزم، بالإضافة إلى عدم الإشارة إلى دور عرفات في السعي للحل السلمي.

تجدر الإشارة إلى أن مصطلح “الشرق الأوسط” يفتقد للدقة في تحديد المشكلات والاحتلالات المحددة، مما يمكن أن يفسح المجال للتلاعب بالمفاهيم. ومن الواضح أن البيان تجاهل الواقع السياسي والاجتماعي في المنطقة، وخفَّف من حدة الموقف بشكل غير مقبول.

في الحفل الذي أُقيم في دار الأوبرا في 16 أبريل/نيسان 2009، أشار بارنبويم في مؤتمر صحفي إلى أن حضوره لمصر لم يكن تطبيعًا، بل جاء لتقديم موسيقاه. وقبل الحفل، شهدت المنطقة توترات وتحركات عسكرية، مما أثر سلبًا على الأجواء المتوترة، وأدى إلى إلغاء الحفل، مما كان يعد بالتأكيد خيبة أمل للوزير.

من جانبها، أثنت فريدة النقاش، رئيسة تحرير صحيفة “الأهالي”، على دعوة حسني لبارنبويم، مشيرة إلى أنها لم تكن تطبيعًا بل استجابة لحاجة فنية، ووصفت بارنبويم بأنه قائد أوركسترا من الأرجنتين، مؤكدة أصوله اليهودية وحصوله على الجنسية الإسرائيلية.

وفي نفس السياق، أشار سمير فريد في عموده اليومي بجريدة “المصري اليوم” إلى دعم فريدة النقاش لقرار حسني بدعوة بارنبويم، واعتبر أن حضوره لم يكن تطبيعًا بل دعمًا للثقافة والفن.

وفي النهاية، يظهر أن بيان سفارة النمسا أثار جدلاً كبيرًا، واعتبر البعض أنه غير مقبول، بينما شجعه آخرون ورأوا فيه دعمًا للحرية الفنية والتبادل الثقافي.

عنصرية دينية وعرقية

سمير فريد أشاد ببارنبويم باعتباره “الإنسان النبيل”. في 20 أبريل/نيسان، نشر مقالًا جديدًا بعنوان “ليلة لا تنسى في الأوبرا: دروس في الجمال والتسامح وتمجيد الحرية”. وكان الحفل مكتمل العدد، ما أعطى انطباعًا احتفاليًا.

ومع ذلك، قدم فريد في مقاله تعليقًا من مجهول في الحفل، الذي لم يتأثر بالموسيقى أو الجمال أو التسامح أو الحرية. وفي نهاية الحفل، ذكر بارنبويم أنه يعلم بوجود معارضين لزيارته في مصر، وقيل بصوت مرتفع: “فليذهبوا إلى الجحيم”. هذا التعليق يحمل خطورة كبيرة ويشبه التهديد بالإرهاب، مما يبرز خطورته.

في السياق الاحتفالي، كتبت تهاني الجبالي، نائبة رئيس المحكمة الدستورية العليا، مقالًا يستعرض “ضمير المثقف بين شابلن وبارنبويم”. بدأت بالحديث عن رفض شارلي شابلن، وردود الفعل التي أثارها، مع التأكيد على قبول بارنبويم للجنسية الإسرائيلية ودعمه للفكرة الصهيونية.

تساءلت الجبالي في مقالها عن موقف المثقف من التزامه بدولة تقوم على العنصرية الدينية والعرقية، وهل يمكن أن يكون لديه الشجاعة للتصدي للتمييز العنصري كموقف ثقافي وأخلاقي. وتحدثت عن ضرورة محاكمة هذا النموذج من التمييز، واستفسرت عما إذا كان يمكن أن يقبل المثقف بانتماء لدولة تمثل كيانًا استيطانيًا عنصريًا.

في رد فعله على مقال الجبالي، كتب سمير فريد مقالًا آخر بعنوان “لنضع كل النقاط فوق كل الحروف فيما خص التطبيع والحرب والسلام”. رفض فريد مطالبة الجبالي بتخلي بارنبويم عن جنسيته الإسرائيلية، مؤكدًا أن الدعوة للسلام لا تعني إلغاء طرف دون الآخر، بل تعني حل المشكلة بين الطرفين.

من جهة أخرى، نوهت تهاني الجبالي بالإمتياز الفني لبارنبويم، لكنها أعربت عن استغرابها من قبوله للجنسية الإسرائيلية ودعمه للفكرة الصهيونية، مشددة على أهمية محاكمة النموذج العنصري الذي يمثله الصهيونية.

في الختام، أشارت تهاني الجبالي إلى أن المثقفين الشرفاء يجب أن يتحملوا مسؤولياتهم الأخلاقية والثقافية، ويعبروا عن مواقفهم بشجاعة، بغض النظر عن التوازنات السياسية.

السقوط في اختبار الديمقراطية

الآن، وأنا أستشعر تشنّج الشاعر وعصبية الداعمين لوزير الثقافة، يدهشني السقوط في اختبار الديمقراطية. رافضو بارنبويم لم يقموا بأي شيء إلا التعبير، سواء بالكلمة أو الكتابة في حال توفرت لديهم الفرصة لذلك. ولم يتحمل المتشنجون والشتامون رأيًا مختلفًا. وإذا فرضنا أن بارنبويم قام بتوظيف صحفي أو كاتب صهيوني، هل كان التشنج سيكون مختلفًا في الطبيعة أو الدرجة عن التشنج الذي شهدناه في الحملة المصرية؟

ربما كانت الحملة تستهدف دعم وزير الثقافة فاروق حسني، المرشح لمنصب رئاسة اليونسكو، من خلال بارنبويم. وعندما خسر المنصب في سبتمبر/أيلول 2009، ألقى اللوم على التسييس في المنافسة على المنصب. فهو أمر يسهل على الفاشلين في مختلف المجالات الارتكان إلى نظرية المؤامرة.

سنرى تفاوتًا في مستويات التشنج عام 2016، مع إعلان التنازل عن جزيرتَي تيران وصنافير. لم يتردد بعض الأشخاص في مهاجمة المدافعين عن مصرية الجزيرتين، واتهامهم بالخيانة لوطنهم. وتظل دروس بارنبويم تحذيرًا من هشاشة بعض رموز رافعي شعارات التنوير وحرية التفكير.

تبقى الواقعة دليلاً على تناقض بعض المثقفين الذين يتوجهون ليكونوا روادًا، ولكنهم يتسمون بالطمع في الانضمام للقوى السياسية، متجاوزين حتى حد الحيرة أمام الاتجاه الذي يجب اتخاذه. وهذا يذكرني بقول الشاعر الشناوي في ستينيات القرن العشرين، وهو يسخر من التقلبات في الاتجاه الاشتراكي: “يا ترسمونا يا تمركسونا.. يلعن أبوكم على أبونا”.

لندع الآخرين يشتمونا وينتقدونا كما يشاءون، ولكن لنبقى نحن أصحاب رؤيتنا وأفكارنا.

زر الذهاب إلى الأعلى