ثقافة

الشهيد عبد القادر الحسيني: قائد جبهة القدس البارز وبطل معركة القسطل

تعد الفترة بين عامي 1917 و1947، حين كانت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني، فترة حافلة بالأحداث التي أثرت بشكل كبير في تشكيل المستقبل السياسي والديموغرافي للمنطقة. كان الاحتلال البريطاني المحفز الرئيسي وراء هجرة الجالية اليهودية الضخمة إلى فلسطين، حيث تشير الأرقام إلى أن المهاجرين وصلوا إلى مليون نسمة. ولم تكن هذه الهجرة مجرد توطين للسكان، بل شملت تأسيس مستوطنات متعددة وتزويدهم بالتسليح والسلاح، بالإضافة إلى دعم من القوات البريطانية، التي في كثير من الأحيان تغض الطرف عن الأعمال الوحشية التي ارتكبها المستوطنون تحت حمايتها.

لقد اعترف عدد من القادة البريطانيين بما لمسوه من تدخل صهيوني وتأثيراته السلبية على السياق الإقليمي. من بين هؤلاء القادة، المارشال (المشير) برنارد مونتغمري، الشخصية البارزة في الحرب العالمية الثانية في شمال أفريقيا. خلال زيارته لفلسطين في نهاية عام 1946، أقر بأن الجيش البريطاني لم يكن قادرًا على تنفيذ المهام الملقاة على عاتقه، نظرًا للتدخلات الصهيونية القوية في لندن. كما أشار إلى وجود خطط محكمة للقضاء على البقية من السكان العرب في فلسطين، بهدف تحويلها إلى كيان يهودي.

تأتي إقرارات المارشال (المشير) برنارد مونتغمري كمؤشر واضح على الدور الفاعل الذي لعبته الحكومة البريطانية في دعم وتيسير الهجرة اليهودية إلى فلسطين خلال الفترة الانتدابية بين عامي 1917 و1947. إلا أن هذا الدور لم يكن محصورًا في الإعلانات المتأخرة فقط، بل كانت نيات لندن تتضح بشكل جلي قبل ذلك بثلاثين عامًا من خلال إصدار وعد بلفور في عام 1917. كما أظهرت تعيين السير هربرت صمويل، الصهيوني اليهودي، كأول مندوب سامي بريطاني في فلسطين عام 1920، إصرار لندن على تسهيل وتشجيع هجرة اليهود إلى تلك الأرض.

تمثلت رغبة الحكومة البريطانية في دعم الهجرة اليهودية بشكل واضح في قرار صمويل بفتح أبواب الهجرة دون أي قيود، ومنح المنظمة الصهيونية سلطة إحضار 16,500 يهودي سنويًا. تزايدت هذه الهجرات بشكل كبير عن الأعداد المعلنة، وكانت تشكل تحديًا للفلسطينيين، الذين بدأوا في المقاومة عبر وسائل متعددة، بدءًا من الإضرابات ووسائل الصحافة وصولاً إلى استخدام السلاح.

تعتبر التعديلات المتكررة التي أدخلها البريطانيون على نظام الهجرة اليهودية في السنوات اللاحقة (1925، 1926، 1927، 1929، وأخيرًا في عام 1932)، رد فعلًا على التصاعد في المقاومة العربية للانتداب وسياسته المفتوحة أمام المهاجرين اليهود. ورغم ذلك، لم تغير هذه التعديلات جوهر نظام الهجرة، مما دفع الفلسطينيين إلى التصعيد وإطلاق الثورات في الثلاثينيات، مثل ثورة 1935 وثورة 1936-1939. يجدر بالذكر أن الولايات المتحدة ساهمت بفعالية في نجاح المشروع الصهيوني، حيث شجعت بريطانيا ودول أوروبية أخرى على فرض قيود على هجرة اليهود إليها، مما أدى إلى توجيه هؤلاء المهاجرين نحو فلسطين، وهو الأمر الذي أثر بشكل كبير في الديموغرافيا الإقليمية.

عبد القادر الحسيني ونضاله المبكر

في ظل هذا السياق التاريخي، أبرزت الفترة بين 1917 و1947 نشوء عدد من الشخصيات الفلسطينية البارزة الذين أسهموا بشكل كبير في قيادة المقاومة والثورة ضد الوجود الصهيوني والاحتلال البريطاني في أرضهم. تألقت عائلة الحسيني في القدس، حيث كانت تتقدم شخصيات بارزة مثل كاظم الحسيني والمفتي أمين الحسيني، بالإضافة إلى الشهيد عبد القادر الحسيني، الذي عاش حياة قصيرة لكنها كانت مليئة بالبطولة والثبات أمام التحديات التي فرضها البريطانيون والعصابات الصهيونية، خاصة في منطقة القدس ومحيطها. كان عبد القادر الحسيني من أبرز القادة العسكريين الوطنيين الفلسطينيين في هذه الفترة الحاسمة.

وُلد عبد القادر الحسيني في إسطنبول بتركيا في عام 1908، حيث كان والده موسى كاظم الحسيني من الشخصيات البارزة في الفلسطين الأثرية. حمل والده خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين منصبًا مهمًا ضمن الإدارة العثمانية في عدة مناطق من الشرق الأوسط، وكان عضوًا في مجلس المبعوثان العثماني. استكمل عبد القادر تعليمه في القدس قبل أن ينضم إلى كلية العلوم في الجامعة الأميركية بالقاهرة. كان نشيطًا في النضال الوطني، حيث انخرط في حزب الوفد المصري وشارك في النشاط السياسي من خلال رابطة الطلبة الشرقيين.

عندما انتبه إلى الدور الثقافي الكبير للجامعة الأميركية، استغل فرصة تخرجه لتوجيه خطاب في صيف عام 1932 أمام شمل وزراء ورجال سلطة. في هذا الخطاب، كشف عن “خطورة ما تقوم به هذه الجامعة في هدم ثوابت الدين الإسلامي ودعم المحتل البريطاني في المنطقة”. عبر عن موقفه بشكل قوي، داعيًا إلى مقاطعة الجامعة، الأمر الذي أدى إلى طرده من مصر بناءً على أمر من رئيس الوزراء إسماعيل صدقي باشا.

في عام 1933، عاد عبد القادر الحسيني إلى مدينة القدس حيث بدأ مسيرته المهنية كمحرر في صحيفة الجامعة الإسلامية. شارك أيضًا في الحياة السياسية من خلال انضمامه إلى الحزب العربي الفلسطيني، الذي كان يرأسه قريبه جمال الحسيني. عمل بعد ذلك كمأمور في دائرة تسوية الأراضي في فلسطين.

أثناء فترة عمله في هذه الوظيفة، قاد عبد القادر الحسيني حملات ناجحة للكشف عن وإحباط محاولات صهيونية وبريطانية للاستيلاء على أراضٍ عربية. ورغم نجاحه في هذا المجال، كانت رغبته الكبيرة هي طرد المحتل البريطاني والصهاينة من وطنه. لذا، قرر أن يستقيل من وظيفته ويستعد للمشاركة في الثورة التي اندلعت في عام 1936، واستمرت لثلاث سنوات حتى قيام الحرب العالمية الثانية في عام 1939.

والده، موسى كاظم الحسيني، كان قد استقر في فلسطين بعد سقوط الدولة العثمانية وترسيخ الاحتلال الفرنسي في سوريا ولبنان. كان والده مصدر إلهام له، حيث أظهر حماسًا وقوة إرادة مذهلة في مواجهة المحتل البريطاني والعصابات الصهيونية. شاركا معًا في العديد من الانتفاضات في مدن مثل القدس ويافا وحيفا. ومع ذلك، لقي موسى حتفه في إحدى المظاهرات في مدينة يافا في أكتوبر 1934، عندما كان في عامه الثمانين. بعد وفاة والده، أقسم عبد القادر على الثأر لدماء والده، وشارك بفعالية في المظاهرات والثورات التي أعقبت وفاته. أصيب بجروح في ذلك الوقت وتعافى، ثم أُصيب بجروح خطيرة أثناء ثورة 1936-1939، والتي شهدت تألقه كقائد وطني فلسطيني بارز.

نظرًا للدور الحيوي والقيادي الذي لعبه عبد القادر الحسيني في ثورة فلسطين عام 1936، أصبحت رحلته محطًا للاهتمام والتأمل. لقد كان من أبرز القادة الوطنيين الفلسطينيين، وبعد استشهاد القائد البارز سعيد العاص، الذي كان من أبرز رموز هذه الثورة، توجه الحسيني إلى قرى فلسطينية حيث كانت تتسارع أحداث الصراع مع الإنجليز.

رغم الإصابات البليغة التي ألمت به جراء المواجهات، قام بملاحقة الإنجليز في القرى الفلسطينية، حيث كان يلعب دورًا حاسمًا في تنظيم المقاومة. تعرض لإصابات جديدة في إحدى المعارك ضد الإنجليز في قرية النعيم، وكانت إصابته بليغة للغاية، مما كاد يؤدي به إلى حافة الموت. بعد علاج سريع، قرر رفاقه إخفاءه وتهريبه إلى سوريا، ومن هناك سافر إلى العراق في عام 1938.

في العراق، قرر عبد القادر الحسيني الانضمام إلى العمل المسلح ضد البريطانيين في منطقة الخليل بفلسطين. خلال معارك ضارية، أصيب من جديد في إحدى المواجهات في القرية. بعد علاج مستعجل، قرر رفاقه نقله إلى سوريا ثم إلى العراق. في هذه المرة، قرر الالتحاق بالكلية العسكرية وتخرج منها كضابط احتياطي.

شارك عبد القادر مع رفاقه الفلسطينيين في ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد المحتل البريطاني في عام 1941، لكن هذه الثورة فشلت، مما اضطره إلى الفرار صوب إيران، ثم عاد إلى بغداد واعتقل في شمال العراق في منطقة زاخو. قضى فترة طويلة في هذا المعتقل حتى عام 1944، حيث سمحت له الحكومة العراقية بالمغادرة، وقد آلمت جراحه من جديد بسبب الإهمال الذي تعرض له.

في هذه المرة، توجه عبد القادر الحسيني إلى المملكة العربية السعودية حيث كان في استقباله الملك عبد العزيز آل سعود، الذي احتضنه بكل حفاوة. قرر الحسيني البقاء في الحجاز، حيث أمضى فترة تزيد عن عامين. لكنه سافر من السعودية سراً إلى ألمانيا، حيث قضى ستة أسابيع في إحدى المعاهد العسكرية الألمانية لتلقي تدريب على صنع المتفجرات والألغام واستخدامها.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، انتقل عبد القادر الحسيني مع أسرته إلى القاهرة في بداية عام 1946. في هذا السياق، عزمت الحكومة المصرية على إبعاده، ولكنها تراجعت عن هذا القرار بفضل تدخل القوى الوطنية المصرية.

في هذه الفترة، وبينما كان في مصر، تلقى أخبار قرار مجلس الأمن بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب في نهاية عام 1947. ومع إعلان الإنجليز انسحابهم في عام 1948، مما خلف الميدان للصهاينة لإعلان دولتهم، قرر الحسيني فوراً البحث عن السلاح في المناطق التي شهدت معارك الحرب العالمية الثانية بين الإنجليز والألمان والطليان في ليبيا ومرسى مطروح. سافر إلى بيروت ودمشق بهدف تحقيق هذه المهمة. في ذلك الوقت، اختارته اللجنة العسكرية المشكلة لتحرير فلسطين تحت رعاية الجامعة العربية ليصبح قائدًا لحركة النضال والمقاومة في الجبهة الوسطى في فلسطين، وذلك في بداية عام 1948.

شهيد القسطل

في الشهور الأربعة الأخيرة من حياة عبد القادر الحسيني، تصاعد نشاطه بشكل محموم ضد العصابات الصهيونية وقواعدهم في القدس والمستوطنات المحيطة. قاد الحسيني ورجاله هجمات مستهدفة على الوجود الصهيوني في المنطقة، مثل تدمير شارع هاسوليل ومطبعة البالستاين بوست في فبراير/شباط عام 1948، بالإضافة إلى شارع بن يهودا. كما قام بتدمير طريق باب الواد وأنابيب المياه التي كانت تمد الأحياء الصهيونية المحتلة.

رغم تحقيقه لانتصارات في هذه المعارك وتكبيده للعدو خسائر كبيرة، إلا أنه كان يدرك أنه يواجه مشكلة جسيمة نتيجة ضعف التسليح ونفاد الذخيرة. لهذا السبب، قرر الحسيني السفر إلى اللجنة العسكرية العليا في دمشق، التي تأسست لدعم فلسطين في نهاية عام 1947.

خلال اثنتي عشرة يومًا، بذل عبد القادر الحسيني جهدًا كبيرًا لإقناع رجال الهيئة العربية العليا واللجنة العسكرية بتقديم الدعم اللازم من عتاد وسلاح. كان يعاني من نقص شديد في المدافع الرشاشة والقنابل. ورغم محاولاته الجادة، فشل في ذلك. في هذا السياق، سقطت مدينة القسطل، الواقعة غرب القدس، في أيدي الصهاينة. وفور سماع الحسيني بهذا الخبر، ازدادت غضبه وانزعاجه، خاصةً من إسماعيل صفوت باشا، القائد العراقي، الذي وصفه حسنين هيكل بأنه “كان ضابطًا لم يشارك في ميادين القتال”، وأنه لم يكن لديه السلطة الفعلية على بقية الجيوش العربية.

في هذا السياق، أعلن له القائد العراقي صفوت باشا بأنه إذا لم يستطع استرجاع القسطل، يمكن أن يكون هناك تكليف للقائد العسكري العربي القاوقجي بهذه المهمة. هذه الإهانة دفعت الحسيني إلى توضيح أهمية القسطل وضرورة استعادتها بشكل فوري بوسائل فعالة، وقد أعرب عن استيائه واستيقاظه لواقع التحديات الجديدة التي تواجهه، معبّرًا عن قدرته على تحقيق النصر إذا تم توفير الدعم والسلاح اللازم.

رفض إسماعيل صفوت طلب عبد القادر الحسيني بتوفير الأسلحة والذخائر الضرورية لاسترجاع مدينة القسطل، وأعلن بلا اكتراث: “ماكو مدافع”. وأثارت تلك الردة القاطعة انزعاج الحسيني، الذي اتهم وزير الدفاع السوري، أحمد الشراباتي، بالخيانة والتقاعس، واتهم إسماعيل صفوت بأنهما سببان في ضياع فلسطين. كانت هذه اللحظة حينما ألقى بالأوراق والخرائط أمام وزير الدفاع وصفوت باشا، وأعلن عن قراره بالرجوع إلى القسطل، واستعادتها حتى ولو بضعف التسليح والعتاد.

في المساء التالي، في 7 أبريل 1948، انطلق عبد القادر الحسيني وأصحابه، وعلى الرغم من العتاد القليل والسلاح الضعيف، توجهوا إلى مدينة القسطل. وصل عددهم إلى ثلاثمائة شخص تقريبًا، واندلعت معارك عنيفة مع الصهاينة. بلغت الجماعات المقاومة القسطل وتوزعوا على محاور البلدة. كادت المجموعات المنحنية والميسرة أن تحقق تقدمًا قويًا حينها، لكن نفاد الذخيرة حال دون تقدمهم. غضب الحسيني زاد حين تأخرت إحدى المجموعات التي أرسلها لضرب الاستحكامات الصهيونية.

في اللحظة التي ذهب فيها للاطمئنان على تقدم المجموعة، اكتشفته القوات الصهيونية وأطلقت النيران عليه. سقط عبد القادر الحسيني شهيدًا في الثامن من إبريل 1948. على الرغم من استعادة المقاومين للقسطل بعد وفاته، استغل اليهود والبريطانيين فرصة تشتت المقاومين وهاجموا المدينة، استعادوها وقضوا على البقايا المتبقية من المقاومين فيها. بهذا الشكل انتهت رحلة عبد القادر الحسيني، الذي قضى جل حياته في صفوف المقاومة والنضال، شاهدًا ومشاركًا في أحداث فلسطين، وختمت حياته بالشهادة في سبيل القضية التي آمن بها ودافع عنها.

زر الذهاب إلى الأعلى