غزة تحت حصار السيولة: الدفع الإلكتروني يخفف المعاناة ويثقل كاهل المتسوقين بالأسعار

في أسواق غزة هذه الأيام، يتردد السؤال ذاته على ألسنة المتسوقين: “هل لديك بيع عبر التطبيق؟”، وهو انعكاس مباشر لأزمة السيولة النقدية الحادة التي يعانيها القطاع منذ بدء العدوان الإسرائيلي في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ومع اشتداد الحصار ومنع الاحتلال إدخال النقد إلى البنوك والأسواق، لجأ السكان إلى الدفع الإلكتروني عبر التطبيقات البنكية على الهواتف المحمولة، في محاولة للتغلب على الأزمة. هذا الحل، وإن بدا عمليًا للبعض، استغله بعض التجار بفرض نسب إضافية تتراوح بين 10% و30% على الأسعار عند الدفع بالتطبيق، وهي نسبة يراها الغزيون أقل كلفة من التعامل مع من يصفونهم بـ”تجار العمولة”، الذين يستنزفون أموالهم مقابل توفير السيولة.
في سوق بشارع النصر وسط غزة، يروج أحد الباعة لزيت الطبخ والأرز بالدفع عبر التطبيق البنكي، مناديًا: “احتفظ بنقودك وادفع على التطبيق”. ورغم الارتفاع الجنوني للأسعار، يقبل كثير من المتسوقين بهذا الخيار لتفادي نسب العمولة الباهظة.
أزمة معيشية خانقة
أم أسامة يحيى، نازحة أربعينية، تروي للجزيرة نت معاناتها قائلة: “إنهم يقتسمون معنا لقمة عيشنا. الشراء عبر التطبيق البنكي يخفف حاجتنا لتجار العمولة لكنه لا ينهي معاناتنا، لأنه يتيح للتجار رفع الأسعار بحجة الدفع الإلكتروني”. وتوضح أن راتب زوجها الحكومي البالغ 1500 شيكل (443 دولارًا) يتآكل إلى النصف عند صرفه نقدًا عبر هؤلاء التجار، بينما تعجز أسرتها المكونة من تسعة أفراد عن مجاراة أسعار المواد الأساسية.
الجولة في سوق غزة تكشف أرقامًا صادمة:
- عبوة زيت السيرج (3 لترات) ارتفع سعرها من 25–35 شيكلاً إلى 105 شواكل (31 دولارًا).
- الطحين قفز من 10 شواكل للكيس (25 كلغ) إلى 20 شيكلاً للكيلوغرام الواحد.
- كيلو الأرز ارتفع من 8 شواكل إلى 38 شيكلاً.
حرب اقتصادية مركبة
الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر يرى أن ما يجري “حرب اقتصادية موازية للحرب العسكرية”، تهدف إلى إنهاك السكان ودفعهم للهجرة. ويشير إلى أن الاحتلال سحب ما يقارب 40% من السيولة النقدية عبر إخراج فئات من عملة الشيكل عن التداول، وفرض قيود على إدخال النقد، معتمداً على عدد محدود من التجار لتمرير مخططاته.
وأوضح أن نسبة العمولة للحصول على السيولة بلغت ذروتها عند 50%، قبل أن تتراجع مؤخراً إلى نحو 37% إثر إدخال مساعدات محدودة. كما ساعد السماح للتجار بالدفع الإلكتروني على تنشيط الأسواق وتقليل الاعتماد على “تجار السيولة”.
فوائد ومعوقات الدفع الإلكتروني
قبل الحرب كان الدفع الإلكتروني شبه غائب في غزة، لكنه تحول اليوم إلى خيار شبه إلزامي. وبرأي أبو قمر، فإن الاحتلال حقق من خلاله هدفًا مزدوجًا: استنزاف المدخرات من جهة، وفرض رقابة صارمة على الحركة المالية من جهة أخرى، لمنع وصول الأموال إلى المقاومة.
ومع ذلك، يصف أبو قمر التوسع في الدفع الإلكتروني بأنه “حل إيجابي” يمكن أن يخفف من أزمة السيولة ويكبح الأسعار، شريطة استمرار تدفق البضائع للأسواق. غير أن هذه الآلية تواجه معوقات عدة، أبرزها:
- غياب بنية تحتية ملائمة وثقافة مالية كافية.
- الانقطاع المستمر للكهرباء والإنترنت.
- عدم توافقها مع احتياجات أساسية مثل المواصلات.
قصص فردية تكشف عن عمق الأزمة؛ دلال أبو عاصي (29 عاماً)، مطلقة تعيل طفلين وتعيش في خيمة، تقول إنها حرمت من مساعدات مالية بسبب عدم امتلاكها حسابًا بنكيًا أو هاتفًا حديثًا. حالتها تعكس واقع آلاف الأسر التي لا تملك الحد الأدنى من المقومات للاستفادة من الدفع الإلكتروني.
دور سلطة النقد الفلسطينية
الخبير الاقتصادي رامي الزايغ يؤكد أن سلطة النقد يمكنها لعب دور محوري في معالجة أزمة السيولة من خلال تشجيع الدفع الإلكتروني، وتسهيل فتح الحسابات البنكية، وتسريع الشمول المالي، بالتعاون مع البلديات والغرف التجارية، مع تخفيف القيود على العمليات النقدية.
ويشدد الزايغ على أن استمرار الأزمة دون تدخل فعّال يهدد بتفاقم الفقر والبطالة، التي وصلت بالفعل إلى مستويات غير مسبوقة في القطاع المحاصر.