صورةٌ لا تُبكِي العالم: خطاب القوة والتجريد من الإنسانية في زمن الحرب

تبدأ الرواية من شاشة رقمية تعرض صورة مضاءة بدقّة، إطارها مربع، تتوسّطها عبوة كرتونية صغيرة تحمل اسم طفلة تدعى منى، لا تتجاوز الأربع سنوات. رُصّت أشلاؤها داخل صندوقٍ صار تابوتًا مؤقتًا. في مقطعٍ آخر، أطفال فلسطينيون يتلمّسون أرضًا ملأتها الشظايا، يجهدون لالتقاط بقايا أحبّتهم في أكياس بلاستيكية بيضاء. وعلى طرف شارعٍ هادئ، يمشي طفلٌ وحيدٌ قبل أن تمحو الكادر لحظة واحدة: ضربة “دقيقة” لطائرة مسيّرة.
الصورة هنا حادة، الصوت واضح، والألوان مشرقة — حتى أن العنف يبدو منتجًا بصريًا عالي الجودة. التكنولوجيا لم تنقذ الأرواح، بل جملت مشهد الموت، وقدمت التفوّق العسكري كقيمة أخلاقية تُخوّل الأقوى أن يقرّر من يبقى ومَن يُبادّ.
في السابق كان يُعتقد أن تكنولوجيا الإيصال الفوري والصور الدقيقة قد تغيّر مجرى التاريخ لو توفرت مبكرًا: لربما كانت ستوقف مجازر حماة في الثمانينيات، أو معسكرات أوشفيتز في الأربعينيات، أو مجزرة سربرنيتسا في 1995. لكن بعد عامين من البث المباشر للإبادة في غزة، تأكدنا من حقيقة مرّة: الصورة وحدها لا توقف العنف. ما فعلته الصور هو إسقاط سرديةٍ إقصائية وفضح وجهها، لا إيقاف فعلتها.
الغضب العالمي تجاه هذه الصور غير موزّع إنسانياً أو إعلامياً. العناوين والتفاعل يختلفان باختلاف هوية الضحية؛ طفل إسرائيلي أو أوكراني يثير عناوين وتعاطفًا مختلفًا عما يثيره طفل فلسطيني. هذه الفجوة تكشف مفارقة العلم والإنسانية في زمن يُقِسُّ كلّ شيء بدقّة النانو، لكنه يعجز عن قياس الألم الإنساني بقيمٍ متساوية.
الكلمة كسلاح
لم يعد الاستهداف يبدأ بالقنابل فقط؛ بل بالكلمات. تُعاد صياغة المفردات وتُوظف لِنزعِ إنسانية الآخر. المجازر لا تنفذ دون سردٍ يبرّرها ويجهّز الرأي العام لقبولها. بذلك، لا تبدأ الإبادة في ساحة المعركة فحسب، بل على منابر السياسيين والإعلاميين ورجال الدين؛ تبدأ بالكلمة الجارحة قبل الرصاصة.
بنيامين نتنياهو، على سبيل المثال، يصوغ سردياتٍ مؤثرة على المستمع الغربي: “النور” مقابل “الظلام”، “الحضارة” ضد “الإرهاب”، “محبو الحياة” مقابل “عشّاق الموت”. بهذه الثنائية البسيطة يُحوّل الصراع إلى اختبار أخلاقي ساذج: الغرب إنساني والآخر همجي، بلدان القانون مقابل بلاد الفوضى. هذه التصنيفات ليست مجرد كلمات؛ بل أدوات لإذلال الآخر وسلب حقوقه، وتستند إلى قدراتٍ مادية وسياسية وعسكرية تمنحها قوة فعّالة.
خطاب نتنياهو يعتمد على تشكيل جملٍ شعاراتية، إيقاعية، توفّر له قدرة على التحكم بمشاعر الجمهور — فترات تصاعدية، وقفات مدروسة، لمسات تلفت الحاشية، وابتسامة توحي بالنصر. وهو يتقلّب بالأقنعة: يستعير قاموس “الحضارة” من حقبة الاستعمار، و”الحرب على الإرهاب” من خطاب أميركي معاصر، ويستعير لغةً استعماريّةً توحي بالحماية والتصرّف باسم الأقليات.
لكن هذا الخطاب بدأ يفقد مصداقيته: حضورٌ شاغر في قاعات عالمية، ردود فعل دولية متزايدة تُظهر عزلته المتنامية، والمزيد من النقد على استعمالاته الاستعمارية والعنصرية. ومع تزايد الخسائر السياسية والعسكرية، يتجه لإعادة تعبئة ساحات إعلامية واجتماعية، ويستعين بشبكاتٍ من المؤثرين وشركات علاقات عامة لإدارة صورة إسرائيل ومحاولة استرداد الدعم المفقود.
تاريخ المصطلحين: “الإرهاب” و”الحضارة”
من المهم فهم أن مفهومي “الإرهاب” و”الحضارة” نشآ في فضاءٍ تاريخي محدّد في أوروبا. في عصر الثورة الفرنسية، اكتسب “الإرهاب” دلالات وظيفية لدى اليعاقبة، قبل أن يتحوّل لاحقًا إلى تهمة تصنّف بها النخب خصومها. عبر القرن التاسع عشر استُخدمت هذه المصطلحات لوصف الشعوب والمذاهب التي تهدّد النظام القائم، وكان لها دور في شيطنة المطالبين بالإصلاح والحدّ من الحركات التحررية.
أما “الحضارة” فقد استُخدمت لتبرير التوسع الاستعماري: بتمثيل الثقافات الأوروبية كقمة تقدمية، وصبغ الشعوب الأخرى بلون “التخلّف”، وصياغة غطاءٍ أخلاقي للحروب التوسعية. هذه الأزمنة التاريخية تكرّرت في سياسات القرن الحادي والعشرين، عندما قُدمت “الحضارة” كذريعة للتدخل أو القمع، وربط “الإرهاب” بشعوب أو ديانات لتبرير ممارسات عنيفة.
فهم هذا المسار التاريخي يبيّن لماذا تتكرر هذه الثنائيات في خطاب نتنياهو: هي أدوات رمزية لشرعنة العنف وحرمان الآخر من حقّه في الذاكرة والتاريخ والسيادة.
هندسة العنف الرمزي
تصنيع العنف يبدأ بتشكيل أنظمة رمزية: اللغة، الألوان، الصور، الموسيقى، والخرائط — كلها أدوات لصنع معرفة زائفة تُغذي هيمنة معينة. وبتوظيف ثنائياتٍ تُسقط الآخر في خانة “الهمجية” وتقدّم الذات في مراتب “التحضّر”، تنتشر مفاهيمٌ تبرّر القمع والاحتلال والإبادة.
الخطاب الإسرائيلي اليميني، في تصنيفه الذاتي، يمسح صورًا إيجابية عن “النور” والـ”إنسانية” والديمقراطية، بينما يصف الفلسطينيين بأنهم “بربر” و”وحوش”. هذا التوصيف يهدف إلى سلبهم كرامتهم وحقوقهم التاريخية، ويُسهِم عمليًا في تمرير سياسات من العنف والاحتلال والتهجير.
ولا تكفي اللغة لتصبح فعالة إلا حين تعترف جماعاتٌ مختلفة بشرعيتها. لذلك يسعى نتنياهو لصناعة تضامن غربي يضعه في مركز “الدفاع عن الحضارة”، مستفيدًا من مخاوف تاريخية وذكريات سلبية قديمة.
استراتيجيات تبرير العنف
تتبدّى استراتيجيات إسرائيل في ثلاثة محاور متناسقة:
- نفي النوايا العدوانية وتحويل التهمة: تروّج رواية مفادها أن إسرائيل “لم ترغب بالحرب” بل “أُجبرت عليها”، وأن الفصائل الفلسطينية أو حتى الشعب كله هم من دفعها إلى خرق الأعراف. هذه استراتيجية “ضربني وبكى” التي تنقل المسؤولية إلى الضحية وتبيح لأطراف الاحتلال تجاوز القواعد.
- تطويع القانون الدولي: عبر تحريف مبادئ مثل “التمييز” و”الاحتياط” و”التناسب”، تُقدّم إسرائيل قتل المدنيين كأثر جانبي مبرَّر، وتصفه بأنه نتيجة لوجود “دروع بشرية” أو استخدام المنشآت المدنية لأغراض عسكرية. كما يتم توقع وقوع أخطاء أو انتهاكات من الطرف الآخر لتبرير هجمات مستقبلية مسبقًا.
- التشويه الإعلامي والادعاءات الملفقة: اختلاق روايات شنيعة — اغتصاب، قطع رؤوس، تعذيب — تُستدعى لاستثارة مشاعر تاريخية لدى الجمهور الإسرائيلي والدولي، وتُوظّف لخلق تعاطف وانحياز يبرر إجراءات قاسية.
هذه الأدوات تُساهم في إعادة تعريف ما هو مسموح وما هو محظور، وبالتالي تبرير المجاعة والحصار والاستهداف الجماعي بوصفها وسائل “مشروعة” لتحقيق أهداف أمنية.
الخرائط والرمز والهيمنة
الخرائط ليست أدوات جغرافية بحتة، بل أدوات سلطة ومعرفة. استخدم نتنياهو الخرائط في خطابه لخلق تصوّر جيوسياسي يخدم روايته: مساحات مضيئة ومساحات سوداء، حواف تبرّر تحركات استراتيجية وسياسية. بهذا الأسلوب يسعى لصياغة إدراكٍ يحدد ما يُرى وما يُمحى، ويغذّي هيمنة سردية تلتهم الجغرافيا والذاكرة معًا.
مقاومة السرد الكاذب
مع كل هذه الضغوط، أثبت الشعب الفلسطيني — بتاريخ طويل من التماسك والصمود — أن القوة ليست دائمًا في الترسانة العسكرية فقط. بعد عامين عن اندلاع العدوان، كانت قدرتهم على إظهار معاناتهم ونضالهم سببًا في كشف البطلان الأخلاقي لبعض الخطابات، وساهمت في وقف مؤقت للحملة في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2025. الدرس هنا أن مواجهة هذه الحرب الرمزية تتطلّب صمودًا إنسانيًا ووعيًا إعلاميًا وتجنيدًا للحقائق ضدّ أوهام القوة.
في النهاية، الصراع ليس صدام حضارات بالمعنى الذي يروج له من يبرّر العنف؛ هو صراع بين من يقدّسون الحياة ومن يباركون الموت، بين من يحتكمون للمبادئ الإنسانية والقانون الدولي ومن يُستخدمون اللغة والرموز لتبرير القتل والاحتلال. وفي هذه المعركة الحضارية تبرز حقيقة لا تقبل الجدل: الكلمةُ تُعدُّ سلاحًا، والوعيُ هو درعٌ ــ ومن لا يقِف في صفّ الإنسانية يكون في صفّ من يسعَى لتقويضها.