اللغة العربية في زمن الذكاء الاصطناعي: الفرصة الأخيرة للانطلاق أو السقوط

لم تحظَ اللغة العربية حتى اليوم بمن يأخذ بيدها لتنهض من عثرتها، وتلتحق بركب اللغات العالمية المتقدمة. في المقابل، نرى شعوبًا تعيد إحياء لغاتها من غياهب النسيان، فتبعث فيها الحياة وتبني عليها دولًا وهوية، إذ لا يمكن تصور أمة بلا لغة، ومن يتهاون في لغته إنما يتهاون في وجوده ذاته.
واليوم، أمام العرب فرصة نادرة وأخيرة للحاق بالعربة الأخيرة من قطار الذكاء الاصطناعي، الذي ينطلق بسرعة هائلة نحو المستقبل. ولا يمكن اغتنام هذه الفرصة دون تضافر الجهود العربية لبناء قاعدة بيانات لغوية عربية دقيقة وشاملة، تمكّن من إنتاج مخرجات بحثية قابلة للتطبيق.
وفي هذا السياق، جاء المؤتمر السنوي الحادي والتسعين لمجمع اللغة العربية بالقاهرة تحت عنوان: “إثراء اللغة العربية: الوسائل والغايات”، والذي شهد حضورًا لافتًا لتقنيات الذكاء الاصطناعي، تجسد في تخصيص لجنة مستقلة بعنوان “اللغة العربية والذكاء الاصطناعي”، يرأسها العالم الدكتور محمد فهمي طلبة، عميد كلية الحاسبات ونائب رئيس جامعة عين شمس السابق، وعضو المجمع اللغوي.
ثورة الذكاء الاصطناعي وصحوة البشرية
يصف الدكتور طلبة السنوات الثلاث الأخيرة بأنها فترة صحوة كبرى، شبيهة بيقظة أهل الكهف، إذ اجتاح الذكاء الاصطناعي العالم بتطبيقاته التي تتطور بشكل يومي في مختلف المجالات، من اللغة والتقنية إلى الصناعات العسكرية والمدنية. وأشار إلى أن “البشرية باتت في مواجهة حقيقية مع آلات ذكية، تسللت إلى تفاصيل حياتنا اليومية، من الهواتف الذكية إلى الأسلحة الدقيقة”، مستشهدًا باستخدام هذه التقنية في الحرب على غزة.
ومن هذا المنطلق، بدأ مجمع اللغة العربية منذ ثلاث سنوات تأسيس لجنة متخصصة لتطويع الذكاء الاصطناعي في خدمة اللغة العربية. ورغم التحديات الكبيرة، خصوصًا تعقيد اللغة العربية وثرائها الكبير — إذ تحتوي على أكثر من 12 مليون كلمة، مقارنة بـ600 ألف كلمة فقط في الإنجليزية — فإن اللجنة نجحت في تحقيق تقدم ملحوظ، وفق ما أكده الدكتور طلبة.
تحديات الترجمة والفهم السياقي
أكد الدكتور طلبة أن تطبيقات الترجمة الآلية لا تزال عاجزة عن الإحاطة بتعقيدات اللغة العربية، التي تتميز بتنوع دلالاتها وسياقاتها النحوية والتشكيلية. وهذا النقص يعود بالأساس إلى غياب قاعدة بيانات دقيقة وشاملة. كما أن فهم الذكاء الاصطناعي للسياق اللغوي لا يزال قيد التطوير، نظرًا إلى أن الكلمة العربية غالبًا ما تحمل معاني متعددة لا تُفهم إلا من خلال السياق والتشكيل.
ورغم ذلك، يشهد الذكاء الاصطناعي تطورًا ملموسًا في تحليل النصوص العربية وتفسيرها، سواء المكتوبة أو المنطوقة. فقد أصبح ممكنًا تحويل الكلام إلى نص والعكس، بل واستخدام الذكاء الاصطناعي في دعم ذوي الاحتياجات الخاصة مثل الصم والبكم، وتيسير تعلم اللغة العربية لغير الناطقين بها.
من الأرشيف إلى الشبكة: رقمنة ثروة لغوية هائلة
أحد أبرز إنجازات المجمع في هذا المجال هو رقمنة أرشيفه الثري، الذي يضم أكثر من 250 ألف مصطلح في شتى العلوم والمعارف، تم إنتاجها على مدى تسعين عامًا. ويجري حاليًا رفع هذه الثروة اللغوية على الإنترنت، بحيث تصبح متاحة للباحثين والمهتمين حول العالم.
كما أشار الدكتور طلبة إلى أن المجمع أنجز رقمنة وثائق ومحاضرات ومؤتمرات عديدة باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك تصميم مواقع إلكترونية قادرة على قراءة النصوص وتحويلها إلى صوت منطوق، وتشكيل الكلمات بشكل آلي، الأمر الذي يسهم في تعميق الفهم للنصوص العربية.
الذكاء الاصطناعي في قراءة التراث العربي
من أبرز التطبيقات المبتكرة أيضًا استخدام تقنيات التحويل النصي الضوئي (OCR) لتحويل المخطوطات الورقية القديمة إلى نسخ رقمية قابلة للتحليل والفهرسة. كما تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحليل هذه المخطوطات واستنباط معانيها الدقيقة، ما يفتح المجال لفهم أعمق لتراثنا الثقافي واللغوي.
كلمة أخيرة
إن اللحظة الراهنة تحمل في طياتها مفترق طرق حاسم للغة العربية: إما أن نلتحق بموكب الذكاء الاصطناعي ونصنع لها مكانًا في المستقبل الرقمي، أو أن نظل على هامش المشهد، نتفرج على لغات أخرى تصعد وتُخلد.
ولا يتحقق الخيار الأول إلا بتكاتف مؤسسات التعليم، والدعم الرسمي، والوعي المجتمعي، والإيمان بأن اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل وعاء للهوية، وسلاح للبقاء.