الأخبار الدولية

مالي بين الضغوط المسلحة والتراجع الروسي: انهيار النفوذ العسكري والخيارات المحدودة

شهدت مالي خلال الأشهر الماضية تطورات أمنية كبيرة مع تصاعد ضغوط مسلحي تنظيم “نصرة الإسلام والمسلمين” على العاصمة باماكو، الذين تبنوا استراتيجية تهدف إلى خنق المدينة تدريجيًا عبر قطع طرق إمداد الوقود. ومع التحسن النسبي للأوضاع، تتزايد التساؤلات حول تداعيات هذه الأحداث على الدور الروسي في أفريقيا، حيث كانت مالي أبرز ساحاته.

التحول الجيوسياسي: من النفوذ الفرنسي إلى التوجه الروسي

لطالما اعتُبرت مالي جزءًا من الحديقة الخلفية الفرنسية في أفريقيا، إلا أن السنوات الخمس الماضية شهدت تحولًا كبيرًا في المشهد الإقليمي، حيث بدأت مالي توجيه بوصلتها نحو موسكو، مدفوعة بزخم شعبي معاد لباريس ومرحب بالتدخل الروسي بعد اتهام فرنسا بدعم نظم استبدادية.

وقد تبلور هذا التحول بشكل حاسم بعد الانقلاب العسكري الثاني في مايو 2021، حين أعادت مالي تقييم علاقاتها مع شركائها الرئيسيين، متهمة فرنسا بفشل التدخل العسكري في مواجهة الجماعات المسلحة، ومشككة في نوايا باريس التي قد تدعم جماعات معادية للدولة المالية.

الدور الروسي وظهور فاغنر

سرعان ما تطورت العلاقات مع موسكو، حيث أشاد وزير الخارجية المالي عبد الله ديوب في مايو 2022 بالتعاون العسكري، مؤكّدًا قدرة القوات المالية على العمل بشكل مستقل بفضل المعدات الروسية.

ولعب آلاف المقاتلين التابعين لمجموعة فاغنر الروسية دورًا أساسيًا في تدريب القوات المالية، محاربة الإرهابيين، وحماية كبار المسؤولين، محلّين مكان البعثات الفرنسية والأممية التي فشلت في تأمين مالي رغم جهود طويلة الأمد.

ترافق هذا التعاون مع اتفاقيات اقتصادية مرتبطة بقطاعي التعدين والطاقة، ما أسس معادلة وصفها معهد “روبرت لانسينغ” بـالأمن مقابل الموارد، حيث يقايض الدعم العسكري بالوصول إلى الموارد الاستراتيجية مثل الذهب واليورانيوم.

من النجاحات الميدانية إلى الخسائر

مثّلت مالي نموذجًا رائدًا للتعاون الروسي الأفريقي، مع التأثير المحتمل على دول مثل بوركينا فاسو والنيجر وغينيا، بدعم النجاحات الميدانية ضد الجماعات المسلحة، أبرزها معركة كيدال 2023 التي أعادت السيطرة على معقل الطوارق.

لكن الانتصارات المبدئية لم توقف التدهور الأمني، إذ تعرضت فاغنر لخسائر فادحة في كمين يوليو 2024، وتلقت العاصمة باماكو هجمات أسفرت عن مئات القتلى والجرحى. ورغم التوسع العسكري لفاغنر، أظهرت هذه التطورات هشاشة النموذج الأمني الروسي في المنطقة.

وأكد الباحث محمد ويس المهري أن التحالف المالي-الروسي تحول إلى عبء على مالي، ليس بسبب الفشل العسكري فقط، بل لأنه وضع الدولة في مواجهة مع الغرب عبر ضغوط وعقوبات، دون تحقيق نجاحات ميدانية تُبرر استمرار هذا التحالف.

تداعيات على النفوذ الروسي

تصف راما ياد من المجلس الأطلسي هذه المرحلة بـ**”تلاشي الوهم الروسي”**، مشيرة إلى أن إعادة هيكلة الوجود العسكري الروسي تحت لواء “فيلق أفريقيا” تركت فراغًا أمنيًا وسياسيًا كبيرًا في مالي.

ويضيف الباحث أحمد الشايخ أن الانشغالات الروسية في الحرب الأوكرانية والصراع مع الغرب تقلل من قدرة موسكو على تعزيز حضورها في أفريقيا، مما يترك حلفاءها الأفارقة أمام خيارات محدودة، خاصة بعد ضعف الأداء الميداني لفاغنر ضد الجماعات المسلحة.

وتشير التحليلات إلى أن موسكو ستسعى لاحتواء الأزمة في مالي اقتصاديًا، لا سيما أزمة الوقود، بينما سيكون التركيز العسكري على دول أخرى مثل النيجر وبوركينا فاسو التي تمكنت حتى الآن من إدارة التحولات الانتقالية بفاعلية نسبية.

خيارات محدودة ومستقبل غامض

في ظل هذه التطورات، يبدو أن النفوذ الروسي في مالي يواجه تراجعًا واضحًا، مع محدودية الخيارات أمام متخذي القرار في موسكو، في حين تتزايد أهمية التعاون الإقليمي بين دول الساحل للحد من توسع الجماعات المسلحة وضمان الاستقرار.

يبقى السؤال الأكبر: هل ستتمكن مالي والدول الشريكة من ملء الفراغ الأمني والسياسي الناتج عن تراجع الدور الروسي، أم أن المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة من التحديات الأمنية المعقدة؟

زر الذهاب إلى الأعلى