الأخبار الدولية

وساطة تاريخية في الدوحة: من ملفات الماضي إلى معادلات جديدة بين كابل وإسلام آباد

في العاصمة القطرية الدوحة، ظهر الملا محمد يعقوب مجاهد، نجل مؤسس حركة طالبان الملا عمر، مرتديًا الزي التقليدي الأفغاني ومُحمَّلًا برمزية تاريخية واضحة، ليوقع في 19 أكتوبر/تشرين الأول اتفاقًا جديدًا. هذه المرة، لم يجلس للتفاوض مع الأميركيين كما اعتادت طالبان خلال سنوات الحرب الطويلة، بل جلس بصفته وزير دفاع أفغانستان، وهو منصب تولّاه قبل نحو أربع سنوات رغم حداثة سنه، عقب انسحاب الولايات المتحدة وعودة طالبان إلى الحكم.

الوساطة لم تكن بين كابل وواشنطن، بل بين كابل وإسلام آباد. فالدولتان الجارتان اللتان جمعتهما سنوات من الدعم والتشابك السياسي، وقفتا اليوم على طاولة الوساطة القطرية-التركية بهدف وقف إطلاق النار وتسوية توترات حدودية متصاعدة، كان آخرها في أكتوبر/تشرين الأول 2025 حين نفذت القوات الباكستانية ضربات جوية على مواقع داخل أفغانستان تقول إنها تابعة لحركات مرتبطة بـ”طالبان باكستان”، قابَلها رد عسكري أفغاني استهدف نقاطًا حدودية باكستانية.

خط ديوراند.. جرح تاريخي لا يندمل

لم تكن الأزمة الحالية سوى فصل جديد في تاريخ ملتهب يمتد منذ رسم خط ديوراند عام 1893، ذلك الخط الذي قسم أراضي قبائل البشتون بين أفغانستان والهند البريطانية (ثم باكستان لاحقًا). فمنذ استقلال باكستان عام 1947، ظل الخط محور نزاع سياسي وهوياتي بين البلدين، وإن طغت عليه خلال الحرب الباردة ملفات أكبر، أبرزها الغزو السوفياتي وصعود المجاهدين بدعم باكستاني، ثم ولادة حركة طالبان.

ورغم الدعم الباكستاني الواسع لطالبان في التسعينيات، فإن العلاقة بين الجانبين تغيرت جذريًا عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، حين وجدت باكستان نفسها مضطرة للتحالف مع واشنطن ضد طالبان. ومع عودة الحركة إلى الحكم عام 2021، ظنت إسلام آباد أن الأمور ستعود إلى ما كانت عليه، لكن الحكومة الجديدة في كابل اتجهت إلى سياسة خارجية أكثر استقلالية، فتقاربت مع إيران والهند والصين وروسيا، في حين توترت علاقاتها مع باكستان، خاصة في المناطق الحدودية.

إرث الجبال والقبائل: حيث تختبئ الملفات

عندما قُتل أسامة بن لادن في أبوت آباد عام 2011 بالقرب من الأكاديمية العسكرية الباكستانية، عادت التساؤلات حول طبيعة النفوذ والحسابات الاستخباراتية المعقدة في المناطق الحدودية، والتي لطالما شكلت نقطة انفلات أمني وجغرافي لباكستان. هذه المنطقة ذات الأغلبية البشتونية ظلّت لعقود خارج السيطرة الكاملة للدولة المركزية، وهو ما ساهم لاحقًا في تحولها إلى ملاذ للحركات المسلحة من القاعدة إلى طالبان باكستان.

ومثلما كانت هذه المناطق ساحة مواجهة مع السوفيات في الثمانينيات، أصبحت لاحقًا نقطة اشتباك بين الجيش الباكستاني وتنظيمات مسلحة تشكل امتدادًا لطالبان الأفغانية، لتجد باكستان نفسها تواجه نتائج تحالفات الأمس.

ما بين الماضي والمستقبل.. معادلات جديدة في آسيا الوسطى

اليوم، تُعيد الوساطة في الدوحة تشكيل خرائط النفوذ والتحالفات في قلب آسيا. فطالبان التي عاشت عقودًا في ظل النفوذ الباكستاني، تسعى الآن لفرض نفسها كدولة مستقلة ذات قرار سيادي. أما باكستان، التي كانت تعتبر طالبان رصيدًا استراتيجيًا، فتواجه الآن واقعًا إقليميًا معقدًا مع صعود قوى جديدة وعودة اللعبة الجيوسياسية بين واشنطن وبكين وموسكو.

ويبقى السؤال المركزي:
هل ينجح اتفاق الدوحة في نزع فتيل نزاع حدودي مزمن، أم أنه مجرد هدنة مؤقتة في صراع تاريخي أعمق من أن يُطوى بتوقيع واحد؟

المشهد مفتوح، والتاريخ حاضر بقوة، والحدود التي رسمها الاستعمار لا تزال تُعيد إنتاج الأزمات في قلب الجبال بين كابل وإسلام آباد.

زر الذهاب إلى الأعلى