الأخبار الدولية

إعلان نهاية عهد الحماية أم بداية استدارة استراتيجية؟ إعادة تقدير اليابان لقدراتها الصاروخية

لم تكن الكلمات التي نطق بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال قمة مجموعة العشرين في أوساكا مجرد مزحة أو زلة لسان؛ بل كانت بمثابة صدمة رمزية كشفت عن هشاشة افتراض استمر منذ 1947 مفاده أن مظلة الحماية الأميركية ستظل مفتوحة دوماً. العبارة، الصادرة عن رأس دولة ضيف على الأراضي اليابانية، حفّزت طوكيو على إعادة قراءة ترتيباتها الأمنية التي حكمت علاقتها مع واشنطن لأكثر من سبعة عقود.

نتيجة لذلك، لم تعد اليابان تكتفي بموقف “الدفاع البحت”؛ فقد أُجبرت على إعادة تقييم ركائز أمنها القومي ليس كمتلق للحماية الأميركية فحسب، بل كقوة تسعى لامتلاك زمام المبادرة في مواجهة تهديدات متصاعدة من كوريا الشمالية والصين. وفي ديسمبر/كانون الأول 2022، أعلنت طوكيو رسمياً انتقالها من عقيدة الدفاع المحدود إلى مفهوم أوسع يتضمن قدرة “الضربة المضادة” كعنصر أساسي للدفاع عن النفس، معلنة أن الهجمات الصاروخية تمثّل تهديدًا واقعياً يستلزم تطوير قدرة على توجيه ضربات استباقية لمراكز إطلاق العدوان.

هذا التحول لم يقتصر على قرارات رسمية فحسب؛ بل ترافق مع تغيير في المزاج الشعبي داخل اليابان، حيث أظهرت استطلاعات حديثة تأييد نحو 60% من المواطنين لامتلاك قدرات الضربة المضادة — نسبة لم تكن لتتخيلها البلاد قبل عقد من الزمن. وهذه القناعة المتنامية دفعت إلى توجيه استثمارات كبيرة لتحديث الترسانة وتطوير منظومات هجومية بعيدة المدى.

في صلب هذه الاستراتيجية، تحتل الصواريخ بعيدة المدى موقع الصدارة. فقد ركزت اليابان مواردها على مشاريع محلية وشراكات دولية لتصميم صواريخ دقيقة قادرة على اختراق العمق المعادي. من أبرز هذه المشاريع تحديث صاروخ “تايب-12” المضاد للسفن من إنتاج “ميتسوبيشي” بحيث ارتُفع مداها من نحو 200 كيلومتر إلى ما يقارب 900 كيلومتر، الأمر الذي يمكنها من تغطية أجزاء واسعة من كوريا الشمالية والسواحل الصينية عند إطلاقها من قواعد برية في جزيرة كيوشو أو الجزر الجنوبية.

النسخة المحسّنة من “تايب-12” جاءت بتصميم يقلل بصمته الرادارية، وبحزمة توجيه متطورة تجمع القصور الذاتي مع تحديث مستمر عبر نظام تحديد المواقع العالمي، ورأس هدفي ذكي مزوَّد برادار AESA يتيح تتبع الأهداف المتحركة في بيئات تشويش صعبة. ومع ذلك، يبقى نقص فعالية الرأس الحربي المصمم أساساً لضرب الأهداف البحرية تحدياً أمام مهمة ضرب الأهداف المرصودة أو التحصينات الخرسانية، ما يستدعي تطوير ذخائر متخصصة أو اعتماد نظم فرط صوتية وباليستية متوسطة المدى.

ومن ثم جاءت جهود اليابان في مجال الأسلحة فائقة السرعة: برنامج القذائف الانزلاقية فائقة السرعة (HVGP) الذي أُطلق عام 2018 بهدف إنشاء منظومة هجومية متنقلة تفوق سرعتها خماسي سرعة الصوت وتتمتع بقدرة مناورة تقوّض فرص الاعتراض. نفّذت طوكيو أول اختبار فعلي عام 2024 وأنشئت كتيبتين لتشغيل النظام في كيوشو وهوكايدو، موضوعة الجغرافيا الاستراتيجية لهاتين القاعدتين في صلب التفكير الدفاعي: الجنوب لمواجهة الصين وشبه الجزيرة الكورية، والشمال لردع أي مخاطر قادمة من جهة روسيا.

لكن قدرات الضربة المضادة اليابانية تصطدم بمحددات حقيقية: أولاً، الوجود النووي لدى الخصوم الإقليميين — كوريا الشمالية على رأسهم — يجعل تحقيق ردع فعال عبر وسائل تقليدية تحدياً بالغ الصعوبة. ثانياً، منظومات الدفاع المتكاملة والقدرات البحرية والجوية الصينية تشكل عائقاً أمام نفاذ الضربات التقليدية. وثالثاً، ثغرات الجاهزية المحلية وتأخيرات في برامج الإنتاج تنشئ فجوات زمنية دفعت طوكيو للاعتماد المؤقت على صفقات تسليح خارجية مثل شراء صواريخ كروز أميركية من طراز “توماهوك” لتسريع سد النقص.

في المحصلة، تبدو اليابان اليوم مختلفة عن الأمس: بلد أبعد ما يكون عن الانغلاق على عقيدة الدفاع السلبي، وبدأ ينتج مخالب ردع هجومية قادرة على العمل ضمن إستراتيجيات احترازية واستباقية. ومع ذلك، يبقى السؤال المركزي عن مدى فعالية هذه القدرات في مواجهة قوة نووية أو منظومة دفاعية متطورة؛ فجسر الفارق بين الاستعدادات التقليدية والردع الحقيقي ما زال طويلاً ويتطلب تحوُّلات سياسية وتقنية واستراتيجية متواصلة.

بعيداً عن المواصفات التقنية، فإن أهم ما في مسار اليابان هو الإشارة إلى عالم تتجه فيه الدول تدريجياً نحو التسلح وإعادة ترتيب حسابات الردع، مجتمعين حول حقيقة واحدة: الأمن أصبح عملية ديناميكية لا تقبل الجمود، وطوكيو اختارت — عملياً وسياسياً — أن تكون جزءاً فاعلاً من هذه المعادلة.

زر الذهاب إلى الأعلى