المعجم ككائن حيّ: رؤية جديدة في كتاب حسين الزراعي حول صناعة المعجم التاريخي

هل يمكن أن يكون المعجم أكثر من مجرد سجلٍّ للألفاظ والمعاني؟ وهل يمكن أن يتحوّل إلى كائن حيٍّ تتنفس فيه الكلمات، وتعيش، وتتغيّر عبر الزمن؟ هذا ما يدافع عنه الباحث اليمني حسين الزراعي في كتابه الجديد “تشكّل الأنساق اللغوية في صناعة المعجم التاريخي: تطبيقات من معجم الدوحة التاريخي للغة العربية”، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
ينطلق الزراعي في أطروحته من تجربته العملية في معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، حيث شغل منصب خبير لغوي أول ورئيس وحدة الإعلام والعلاقات العامة، ليقدّم رؤية مغايرة تجعل من المعجم نظامًا حيًا متكاملًا لا مجرد مستودعٍ لمعاني الكلمات. يرى الباحث أن الكلمة تشبه الكائن الاجتماعي الذي يتحرك في بيئته، يتفاعل معها ويتطور ضمن سياقاتها التاريخية والثقافية.
من الأصوات إلى الدلالات: بنية الكتاب ومراحل التحليل
يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام رئيسية، يضم كلٌّ منها فصلين، ويشكّل معًا رحلة فكرية لفهم كيفية تشكّل الأنساق اللغوية:
القسم الأول: النسق الصوتي وجذور الألفاظ
ينطلق من الأصوات العربية وأصولها، مستعرضًا فكرة “الحاضنات الصوتية” التي تشبه العائلات الطبيعية للكلمات. يشبّه الزراعي الألفاظ بالكائنات الحيّة التي تنتسب إلى أصول صوتية وصرفية مشتركة، ويحلل ظواهر مثل تبادل الأصوات والقلب المكاني، مستعينًا بإسهامات عالم اللغة بيمان ميكايلي في المعجم الإتيمولوجي للعربية.
القسم الثاني: النسق الصرفي وبنية الكلمة
يركّز على العلاقة بين الجذر والصيغة في العربية مقارنة بالإنجليزية، ويعرض منهجين تحليليين:
- التحليل التأليفي الذي يربط بين الجذر والصيغة لتكوين المعنى.
- التحليل التفكيكي الذي يفصل الكلمة إلى جذع وسوابق ولواحق.
ويبيّن الزراعي أن الوزن الصرفي يحمل طاقة دلالية مستقلة، تُسهم في توليد المعاني الجديدة. كما يناقش مفهوم “المراقبة الرأسية” التي تتبع التحولات الزمنية في الأفعال ودلالاتها عبر العصور.
القسم الثالث: النسق الدلالي وتاريخ المعنى
يفتح الباب أمام دراسة تطور المعاني عبر الزمن، مميزًا بين تاريخ المعنى (كيف تغيّر معنى الكلمة) وتاريخية المعنى (ارتباطه بسياقه الزمني والثقافي). ويؤكد أن المعنى لا يمكن عزله عن بيئته، داعيًا إلى تتبّع المجازات والحقول الدلالية المتحولة.
ومن التطبيقات التي يناقشها: ألفاظ العظام، وأسماء الألوان، والألفاظ الأعجمية التي دخلت العربية وتفاعلت مع نظامها الصوتي والدلالي.
التأثيل والتأصيل: شجرة نسب اللغة
يفرّق الزراعي بدقة بين مفهومي التأثيل (Etymology) والتأصيل في صناعة المعجم التاريخي:
- التأثيل: تتبّع الجذور الصوتية المشتركة بين اللغات، وردّها إلى أصل واحد، مع التمييز بين ما هو دخيل وما هو أصيل.
- التأصيل: البحث عن أقدم معاني الكلمة وربط تطوراتها الدلالية اللاحقة بذلك الأصل الأول.
ويرى المؤلف أن التكامل بين التأثيل والتأصيل يُنتج شجرة نسب لغوية تتفرع منها المعاني كما تتفرع السلالات من أصلها، موضحًا أن المعجم التاريخي لا يكتمل إلا بتفاعل هذين المسارين معًا.
الأنساق الثلاثة: البنية الصوتية والصرفية والدلالية
يقدّم الزراعي تصورًا عميقًا لثلاثة أنساق مركزية تنظّم الكلمة العربية:
- النسق الصوتي: يدرس العلاقات بين الحروف ومخارجها وصفاتها، وكيفية تغيّرها عبر اللهجات والعصور، مستعينًا بإرث الخليل بن أحمد الفراهيدي في “كتاب العين”، مع توظيف أدوات علم الصوتيات الحديث.
- النسق الصرفي: يتناول الأوزان والاشتقاقات بوصفها آليات لتوليد المعاني الجديدة، موضحًا أن الأبنية ليست قوالب جامدة بل بنى حيوية تولد معانيها مع كل اشتقاق.
- النسق الدلالي: يربط الألفاظ ضمن حقول معنوية مترابطة كأسماء الألوان والعلاقات الاجتماعية، مبرزًا أن المعنى لا ينشأ بمعزل، بل يتكوّن ضمن شبكة من العلاقات المعرفية والثقافية.
هذه الأنساق الثلاثة، كما يرى الباحث، تتشابك وتتكامل لتجعل من المعجم التاريخي فضاءً حيويًا تتحرك فيه اللغة كوحدة عضوية متكاملة.
من أداة لغوية إلى أداة معرفية
يتجاوز الكتاب التحليل اللغوي إلى رؤية المعجم كمنظومة معرفية تعكس تطور الإنسان وثقافته عبر الزمن. فالكلمة عند الزراعي ليست مجرد علامة لغوية، بل كائن ثقافي يحمل في جذوره ملامح الحياة الاجتماعية والبيئية والجمالية لمستخدميها.
ومن هنا يصبح المعجم التاريخي أداة لفهم الأنثروبولوجيا والآثار والتاريخ، إذ تكشف الألفاظ عن التحولات في المعتقدات والطقوس والممارسات اليومية. فمثلاً، أسماء الألوان في العربية لا تقتصر على توصيف المشهد البصري، بل تعبّر عن رموز اجتماعية وجمالية مرتبطة بالمكانة والهوية والذوق الجمعي.
كما يناقش الزراعي عملية التعريب بوصفها فعلًا لغويًا خلاقًا لا مجرد نقلٍ للمعاني، إذ تمكّنت العربية عبر تاريخها من استيعاب المفردات الدخيلة ودمجها في بنيتها الصوتية والدلالية دون أن تفقد أصالتها أو انسجامها الداخلي.
المعجم مشروع حضاري لا عمل تقني
يؤكد الزراعي أن المعجم التاريخي ليس مجرد عمل لغوي توثيقي، بل مشروع حضاري متكامل يهدف إلى إعادة اكتشاف اللغة العربية في عمقها الزمني والبنيوي، وإبراز قدرتها على مواكبة التطور المعرفي واللغوي العالمي.
فاللغة – كما يرى – كائن اجتماعي يتنفس عبر الزمن، والكلمة تعيش وتموت وتولد من جديد ضمن سياقها الثقافي والتاريخي. ومن ثم فإن إعادة بناء الكلمة في مستوياتها الصوتية والصرفية والدلالية تمثل جوهر العمل المعجمي الحديث، ووسيلة لفهم العقل العربي وتاريخه الثقافي.
وبذلك يقدّم حسين الزراعي عبر كتابه رؤية علمية طموحة تجعل من المعجم التاريخي للعربية كائنًا نابضًا بالحياة، يتطوّر كما تتطوّر اللغة نفسها، ويعيد وصل العربية بمدارس اللسانيات الحديثة على أساس من الصرامة المنهجية والدقة العلمية، جامعًا بين التراث اللغوي العربي الأصيل والمقاربات اللسانية المعاصرة.