اقتصاد

فرنسا 2025.. بين إرث القوة وتحديات الانكماش

طوال عقود، شكّلت فرنسا أحد ركائز المشروع الأوروبي، مستندة إلى اقتصاد قوي وثقل سياسي ونموذج اجتماعي متماسك. غير أن هذه المكانة تواجه اليوم منعطفاً حاسماً، مع تزايد الضغوط الداخلية وتبدّل التوازنات الجيوسياسية، ما يجعل عام 2025 محطة فارقة في اختبار قدرة الدولة على الحفاظ على تماسكها الاقتصادي والاجتماعي.

هذا التقرير يرصد أبرز التحديات التي تهدد الاستقرار الفرنسي، من تباطؤ النمو وتفاقم الدين العام، إلى الأزمات الديموغرافية والضغوط الاجتماعية، وصولاً إلى تراجع النفوذ الخارجي.

1. تباطؤ النمو في أدنى مستوياته منذ عقد

يعاني الاقتصاد الفرنسي من ركود ممتد، لا يفسَّر فقط بتداعيات مؤقتة كجائحة كورونا، بل يعكس اختلالات هيكلية عميقة. وتشير التقديرات إلى أن معدل النمو في 2025 لن يتجاوز 0.6%، مقارنة بـ0.8% في 2024، وهو الأضعف بين الاقتصادات الكبرى في أوروبا والأدنى منذ 2015.

2. الدين العام والخاص.. وتيرة انفجار

بلغ إجمالي الدين الفرنسي منتصف 2025 نحو 7.65 تريليونات يورو، أي أكثر من ضعفي الناتج المحلي.

  • الدين الحكومي: ارتفع إلى 3.34 تريليونات يورو (115% من الناتج)، بعدما تضاعف خلال 15 عاماً. وتُقدَّر كلفة الفوائد بـ62 مليار يورو في 2025، مع توقع وصولها إلى 100 مليار يورو بحلول 2029.
  • الدين الخاص: بلغ 4.3 تريليونات يورو (150% من الناتج)، مدفوعاً بتكاليف المعيشة والسياسات النقدية التوسعية.

وتشير التوقعات إلى أن إجمالي الدين قد يصل إلى 8.78 تريليونات يورو بحلول 2029، ما يرفع نسبته إلى نحو 289% من الناتج المحلي. وكالة موديز خفّضت بالفعل التصنيف الائتماني لفرنسا نهاية 2024، مع تحذير من خفض إضافي ما لم تُتخذ إصلاحات جذرية.

3. عبء ضريبي خانق وتآكل الطبقة الوسطى

تمثل الضرائب 42.8% من الناتج المحلي في 2024، أحد أعلى المعدلات عالمياً، دون أن تنعكس على تحسين الوضع المالي. فالتهرب والإعفاءات الضريبية تُهدر أكثر من 160 مليار يورو سنوياً، ما يفاقم العجز ويثقل كاهل المواطنين، خاصة مع اعتماد الدولة الكبير على ضريبة القيمة المضافة وضريبة الدخل.

4. أزمة القطاع الخاص.. ركود الصناعة والخدمات

يشكل القطاع الخاص 84% من الاقتصاد، لكنه يعيش ركوداً مستمراً منذ ما يقارب العام. مؤشر مديري المشتريات تراجع إلى 48.6 نقطة في يوليو/تموز 2025، ما يعكس ضعف الطلب وفقدان الثقة.

  • الخدمات: تهيمن بنسبة 72% من الناتج، لكنها تواجه تباطؤاً حاداً.
  • الصناعة: تراجعت حصتها إلى 17.5% من الاقتصاد، متأثرة بالضرائب المرتفعة وتراجع الاستثمارات.

5. الشيخوخة السكانية وضغوط التقاعد

تشكل فئة كبار السن (65+) أكثر من 21% من السكان في 2024، ومن المتوقع أن ترتفع إلى 25% بحلول 2040، مع معدل خصوبة لا يتجاوز 1.68 طفل لكل امرأة. هذا الاتجاه يضعف قاعدة العمل والتمويل الاجتماعي، ويعمق عجز نظام التقاعد الذي بلغ 13 مليار يورو في 2023، ويتوقع تجاوزه 20 مليار يورو بحلول 2030.

6. اضطرابات اجتماعية وسياسية

شهدت فرنسا في 2023 أكثر من 12 ألف مظاهرة، بزيادة 18% عن العام السابق، فيما أظهر استطلاع يوليو/تموز 2025 أن 67% من المواطنين لا يثقون بقدرة الحكومة على تحسين أوضاعهم. سياسياً، يواجه رئيس الوزراء فرانسوا بايرو برلماناً منقسماً وخطة تقشفية مثيرة للجدل بقيمة 43.8 مليار يورو.

7. الاعتماد الطاقي.. قوة نووية وضعف في الوقود

رغم أن فرنسا تحقق اكتفاءً كهربائياً عالياً بفضل محطاتها النووية (70% من الإنتاج)، فإن اعتمادها على الخارج في النفط والفحم ونصف حاجتها من الغاز يجعل أمنها الطاقي هشاً.

8. تراجع الدور الفرنسي دولياً

تقلص نفوذ باريس في أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط. ففي أوروبا، لا ترى سوى 25% من العواصم أن فرنسا مؤهلة للقيادة، مقابل 42% لألمانيا. وفي أفريقيا، تراجعت الحصة السوقية من 11% عام 2000 إلى 5.5% في 2017. كما انخفضت صادرات السلاح بنسبة 22% خلال أربع سنوات، وتقلص الوجود العسكري الفرنسي في الساحل من 5100 جندي عام 2020 إلى أقل من 2000 في منتصف 2025.

خلاصة

تواجه فرنسا اليوم مزيجاً معقداً من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يتقاطع مع تراجع حضورها الدولي. ورغم امتلاكها أدوات قوة بنيوية كالصناعة النووية، والنظام التعليمي، والموقع الجغرافي الاستراتيجي، فإن فعالية هذه الأدوات مرهونة بقدرة باريس على إقرار إصلاحات جذرية تُعيد التوازن بين حاجات الدولة وطموحات المجتمع.

زر الذهاب إلى الأعلى