أفغانستان بين تضخيم الرواية وتغييب الحقائق: قراءة في التغطية الإعلامية الدولية والعربية

ظلت أفغانستان لعقود حاضرة في نشرات الأخبار الدولية والعربية، غالبًا كعنوان للمعارك الطاحنة أو التفجيرات الدامية أو انسحاب الجيوش الأجنبية. صورة نمطية اختزلت البلاد في مشاهد الطفل الذي يحمل بندقية، والمرأة المنتقبة التي تبكي خلف جدار مهدّم، والمقاتلين على قمم الجبال. لكن، هل تعكس هذه الصورة حقيقة أفغانستان؟ وهل نقل الإعلام الدولي والعربي الواقع كما هو؟
هجمات 11 سبتمبر وتحول السردية
شكّلت هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 نقطة تحول جوهرية في التناول الإعلامي لأفغانستان. فقد تبنت وسائل الإعلام الغربية، خاصة الأميركية، سردية “الحرب على الإرهاب”، مقدّمة البلاد باعتبارها ملاذًا لتنظيم القاعدة وحركة طالبان، مع تجاهل واضح للجذور السياسية والاجتماعية والتاريخية التي مهّدت للوضع القائم.
روّجت الشبكات الأميركية الكبرى لخطاب يربط بين الإسلام في أفغانستان والإرهاب، مغيّبة عقودًا من الاحتلال الأجنبي، وضعف التنمية، والتدخلات الإقليمية والدولية التي ساهمت في هشاشة الدولة والمجتمع. ووفق دراسة لجامعة كاردان في كابل، ساعدت هذه التغطية في تكريس رؤية ثنائية للعالم: “خير يمثله الغرب” و”شر يجسده خصومه”، وهو خطاب تجلى في كلمات الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش: “إما أن تكونوا معنا أو مع الإرهابيين”.
خطاب إنساني موجه لتبرير الغزو
في سياق التحضير للغزو الأميركي، لعبت وسائل الإعلام دورًا محوريًا في تمرير صور لنساء أفغانيات في مشاهد قاتمة تحت حكم طالبان، بهدف إضفاء غطاء إنساني على التدخل العسكري. وقدمت الحرب كمشروع لتحرير المرأة وبناء دولة حديثة، فيما تم تغييب أصوات النساء الحقيقيات، خاصة من المناطق النائية.
يؤكد الباحث الأفغاني عبد الشهيد مايار أن إدارة بوش تبنت سرديتين متوازيتين: سياسية ترفع شعار الديمقراطية، وإنسانية تركّز على إنقاذ النساء. هذه السرديات تم تبنيها – دون نقد – من معظم وسائل الإعلام الأميركية، مما منح الحرب شرعية أخلاقية زائفة. حتى السيدة الأولى آنذاك، لورا بوش، دخلت على خط الحملة برسائل إذاعية، غير أن كثيرًا من الباحثين يرون أنها كانت استثمارًا سياسيًا أكثر من كونها التزامًا حقيقيًا بحقوق النساء.
انتقائية التغطية أثناء الغزو
خلال قرابة عقدين من الاحتلال الأميركي، تميزت التغطية الغربية بالانتقائية واعتماد خطاب وظيفي خاضع لأولويات السياسة. ركز الإعلام على قصص بناء المدارس وتمكين المرأة، متجاهلًا الفساد المستشري والإقصاء السياسي والانتهاكات التي ارتكبتها القوات الأجنبية.
وعلى سبيل المثال، في معركة قندوز عام 2009، احتفت وسائل الإعلام الغربية بما وصفته بـ”نجاح الضربات الجوية ضد طالبان”، بينما تم تجاهل مقتل مدنيين بينهم أطفال. كما غابت ملفات حساسة كالسجون السرية التابعة لوكالة الاستخبارات الأميركية (CIA) وممارسات التعذيب فيها، إلا عندما فرضت تقارير المنظمات الحقوقية فتحها بعد سنوات من الصمت.
الانسحاب الفوضوي وتكرار الصورة النمطية
مع الانسحاب الأميركي في أغسطس/آب 2021، ركّز الإعلام الدولي على مشاهد الفوضى في مطار كابل دون الغوص في الأسباب العميقة لفشل المشروع الغربي. كثير من وسائل الإعلام اكتفى بإلقاء اللوم على الداخل الأفغاني، متجاهلًا الإخفاق الاستراتيجي للقوى الدولية.
يقول أستاذ علم النفس السياسي ريتشارد ليشمان إن التغطية الإعلامية حينها كانت ضيقة للغاية، إذ ركزت فقط على صور الأفغان الذين يحاولون الهروب، مما منع الجمهور من فهم ما جرى خلال العقدين الماضيين.
الإعلام العربي… صدى للرواية الدولية
بعد أحداث 11 سبتمبر، اتسمت معظم التغطيات العربية – باستثناءات محدودة كقناة الجزيرة – بترديد السرديات الغربية دون تمحيص. غابت التحقيقات الميدانية المستقلة، وتجاهلت التغطية التنوع الثقافي والديني في البلاد. كما استخدمت بعض المنصات الملف الأفغاني لتصفية حسابات سياسية إقليمية، فتباين الخطاب بين من يشيطن طالبان باعتبارها تهديدًا للإسلام السياسي ومن يلمع صورتها كحركة معتدلة.
اختزال المجتمع في ثنائية الجلاد والضحية
إحدى أبرز إشكاليات التغطية الإعلامية للشأن الأفغاني هي الاختزال المفرط. فقد تم تصوير طالبان والجماعات المسلحة كـ”جلاد”، مقابل نساء وأطفال ولاجئين كـ”ضحايا”، مع إغفال المجتمع المدني والنخب الفكرية والشبابية.
تفاقم هذا الاختزال بسبب ضعف تمثيل الصحفيين الأفغان في غرف التحرير الدولية، حيث غالبًا ما يُستعان بهم كمترجمين أو مساعدين ميدانيين، فيما تكتب التقارير النهائية في لندن أو واشنطن. كما ساهم إرسال “صحفيين مظليين” بلا معرفة كافية بالواقع المحلي في إنتاج تغطيات سطحية.
إعلام بلا توازن ولا أصوات محلية
رغم مرور سنوات على سيطرة طالبان، لا تزال التغطيات الغربية والعربية تتأرجح بين الشيطنة والتبرير، دون مقاربة مهنية متوازنة. فالبعض يتجاهل التحولات الميدانية الإيجابية نسبيًا، مثل تراجع تجارة المخدرات وتحسن بعض المؤشرات الاقتصادية، فيما يذهب آخرون إلى تلميع الحركة متجاهلين انتهاكاتها الجسيمة وغياب دستور يضمن المشاركة السياسية.
تغيب أيضًا “الأغلبية الصامتة” عن المشهد الإعلامي، وهي شريحة واسعة من المثقفين والعلماء والناشطين المدنيين الذين لا ينتمون لطالبان أو للنظام السابق، ويسعون إلى بناء دولة عادلة تمثل جميع مكونات الشعب. تغييب هذه الأصوات يعمّق من ضبابية الصورة ويحول أفغانستان إلى مجرد مادة لصراعات القوى الكبرى والإقليمية.
التحديات الأخلاقية والمهنية
يؤكد المراقبون أن قصور الإعلام الدولي والعربي في تقديم صورة شاملة عن أفغانستان لا يُعد إخفاقًا مهنيًا فحسب، بل استمرارًا لـ”ظلم معرفي”. إذ تغلب الصور النمطية، وضعف التمثيل المحلي، والخضوع للأجندات السياسية على التغطية.
يقول بصير أحمد دانشيار، أستاذ الإعلام في جامعة هرات سابقًا: “الصحفيون الأفغان يواجهون ضغوطًا مضاعفة من السلطات القائمة ومن ضعف الحماية الدولية. كثير منهم اضطروا إلى مغادرة البلاد، مما أضعف الحضور المستقل في المشهد الإعلامي المحلي”.
إن تجاوز هذا الخلل يتطلب إعادة الاعتبار للصحافة الميدانية المستقلة، وإتاحة مساحة أكبر للصحفيين المحليين، وتحليل الروايات السائدة نقديًا. عندها فقط يمكن تقديم صورة أقرب إلى واقع بلد يعاني منذ عقود من الحروب والانقسامات، بعيدًا عن الصور النمطية التي حكمت التغطية الإعلامية لعشرات السنين.