ثقافة

ميلان كونديرا.. عندما تتحول كرة القدم إلى مرآة للفلسفة والخلود

“الحب هو الشوق إلى النصف الذي فقدناه من أنفسنا”… بهذه العبارة العميقة، صاغ الروائي التشيكي الراحل ميلان كونديرا واحدة من أبلغ تعاريف الحب، بلغة لا تُشبه إلا كونديرا نفسه؛ لغة تختزل الفلسفة في سطر، وتمنح الحياة كثافة لا تُطاق حين تُترجم. تلك اللغة، التي وسمت أعماله الكبرى، حجزت له مكانة مرموقة كأحد أعظم روائيي القرن العشرين، منذ أن نشر رائعته الخالدة “خفة الكائن التي لا تُحتمل” عام 1984.

وعلى الرغم من أن كونديرا لم يُخصص رواية كاملة لكرة القدم، فإن سحر اللعبة وجد طريقه إلى تأملاته، ولامس في وجدانه ما يتجاوز الترفيه والرياضة. ففي إحدى مقالاته كتب:
“لاعبو كرة القدم يشبهون الفراشات، في جمالهم وتراجيديتهم؛ يطيرون عالياً بمنتهى البهاء، دون أن تُتاح لهم فرصة التأمل في جمالهم.”

بهذا التشبيه، يُعبّر كونديرا عن حساسيته الإنسانية العميقة تجاه لاعبي الكرة، الذين لا يراهم فقط كرياضيين، بل ككائنات تتأرجح بين الجمال والفناء، بين الحرية والانضباط، وبين الفردانية والانتماء للجماعة.

كرة القدم.. عدسة لرؤية الوجود

في أدبه، استخدم كونديرا كرة القدم كعدسة يطل منها على الوجود الإنساني. فرأى في الملاعب مساحات لا تُجسّد فقط التنافس، بل تُفصح عن صراعات داخلية بين الذات والمجتمع، بين الأنانية والتضحية. فاللاعب الذي يُقدّم المجد الجماعي على تألقه الفردي، والذي يتحمّل الألم دفاعاً عن الفريق، هو عند كونديرا بطل وجودي، يتجلى على أرضية الملعب كرمز للمقاومة والجمال.

الفلسفة في قميص رياضي

كما في روايته “خفة الكائن التي لا تُحتمل”، حيث يتأرجح الإنسان بين الخفة والثقل، رأى كونديرا أن اللاعب يعيش أيضًا تحت ضغط التوقعات وخفة اللحظة. وفي كتابه “الضحك والنسيان”، شبّه كونديرا الكرة بتلك اللحظة العابرة التي تُتيح للإنسان نسيان الإخفاق والولادة من جديد، مثل لاعب يستعيد مجده بهدفٍ يُعيد له الحياة.

كرة القدم: مقاومة رمزية

كان كونديرا مدركًا لحدود التغيير في هذا العالم، لكنه لم يكفّ عن الإيمان بما هو رمزي. فكتب ذات مرة:
“لقد أدركنا أنه لم يعد ممكناً قلب هذا العالم، كانت ثمة مقاومة يتيمة: ألا نأخذه على محمل الجد.”
وفي كرة القدم، رأى نوعًا من المقاومة الرمزية، وصوتًا للحرية. لم تكن اللعبة عنده مجرد تسلية، بل كانت مرآة لتراجيديا الإنسان، وساحة تؤكّد أن الحياة ليست فقط ما نعيشه، بل كيف نعيشه.

الخلود في زمن العابرين

رحل ميلان كونديرا عام 2023، لكن صوته ظلّ يتردد في أذهان من قرأوه وتأملوا معه معنى الوجود، والحب، والحرية. طرح سؤالًا لا يُغادرنا:
“ماذا سنترك بعد أن نرحل؟”
ربما نترك كتبًا، أو أبناء، أو إنجازات، وربما تتركنا كرة القدم ونحن نودّعها، كلاعبين ومشجعين وعشاق مخلصين. لكنها، كما كان يراها كونديرا، لعبة خالدة… لا تموت.

زر الذهاب إلى الأعلى