تقنية

من الصحفي التقليدي إلى “الصحفي المهندس”: تحوّل جذري في غرف الأخبار

في التسعينيات، كان الصحفي الذي يظهر في الميدان بلا قلم أو دفتر يُنظر إليه باستغراب. فكيف يمكنه أن يكتب خبراً أو مقالا أو حتى ينجز حواراً وهو بلا أدواته الأساسية؟ ومع بداية الألفية، دخلنا مرحلة جديدة مع أجهزة التسجيل الصغيرة التي منحت الصحفي “هيبة تقنية” أمام ضيوفه، لكنها سرعان ما كشفت تحدياً مرهقاً: تفريغ التسجيلات نصاً.

من “الصحفي الشامل” إلى “الرقمي”

مع مرور الوقت، برز مفهوم “الصحفي الشامل”، الذي يُطالب بإتقان أدوات التصوير والمونتاج والمكساج والتعامل مع المنصات الاجتماعية، ليواكب قفزات المهنة. ثم جاء جيل “الصحفي الرقمي”، المتمرس في تحسين الظهور الرقمي، وسرعة التفاعل، واستثمار المصادر المفتوحة.

ظهور “الصحفي المهندس”

اليوم، يطل مصطلح جديد: الصحفي المهندس. وهو الصحفي القادر على التعامل مع هندسة الأوامر (Prompt Engineering)، أي صياغة أوامر دقيقة ومدروسة تقود نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية نحو إنتاج محتوى موثوق وعالي الجودة.
هذا الدور يجمع بين الخبرة التحريرية وفن مخاطبة الآلة، ليصبح الصحفي موجهاً للذكاء الاصطناعي بدلاً من أن يكون مجرد مستهلك لنتاجه.

ما هي هندسة الأوامر؟

هندسة الأوامر في الصحافة أشبه بتعلم لغة جديدة. هي صياغة نصوص مدروسة تُوجَّه للنماذج الذكية، بهدف الحصول على محتوى دقيق يدعم التحرير والتحقق والتحليل. تماماً كما كان إتقان اللغة شرطاً أساسياً في بدايات المهنة، أصبحت هذه المهارة اليوم بوابة الصحفي لعالم رقمي متسارع.

لماذا نحتاج إلى الصحفي المهندس الآن؟

  • لأن المؤسسات الإعلامية مطالبة بإنجاز المهام بسرعة وجودة وكفاءة أعلى.
  • لأن عدداً من الصحفيين يستخدم بالفعل أدوات مثل ChatGPT أو Gemini أو Claude، لكن دون إلمام بلغة هذه النماذج، مما يؤدي إلى محتوى سطحي.
  • ولأن فجوة المهارات الرقمية باتت معياراً حاسماً يحدد قدرة المؤسسات على المنافسة.

أثره على غرف الأخبار

تبني هندسة الأوامر في المؤسسات لا يعني استبدال الصحفيين بالآلة، بل إعادة تعريف أدوارهم:

  1. تطوير الفلسفة التحريرية: التركيز على الزاوية الصحفية بدلاً من هوية كاتب النص.
  2. رفع جودة القوالب التحريرية: عبر إنشاء “بنك أوامر” يسرّع العمل ويضمن اتساق المخرجات.
  3. تعزيز التنافسية: المؤسسات التي تتبنى الذكاء الاصطناعي مبكراً ستتقدم بخطوات على غيرها.

التحدي: إعداد جيل من الصحفيين المهندسين

المسألة لا تبدأ من كليات الإعلام، بل من غرف الأخبار نفسها، عبر تدريب عملي على الأدوات الضرورية، وبناء رؤية تحريرية ترى في الذكاء الاصطناعي شريكاً لا خصماً. وهنا تصبح الكتابة المدروسة للأوامر مهارة مهنية قائمة بذاتها.

هل يهدد الذكاء الاصطناعي القلم الصحفي؟

الخطر لا يكمن في الذكاء الاصطناعي ذاته، بل في موقع الصحفي أمامه. الصحفي الذي يستهلك مخرجات الآلة بلا وعي سيفقد مكانه تدريجياً. أما الصحفي المهندس، فهو حارس البوابة الذي يوجّه الآلة، ويدقق نتاجها، ويعيد صياغته وفق السياسة التحريرية، ليظل القلم هو الحكم النهائي.

الصحفي المهندس.. خيار فردي ومسار مهني

قد تتأخر بعض المؤسسات في تبني هذا التحول، لكن الصحفي نفسه يستطيع أن يبدأ من الآن. فالمهندس الصحفي لا يُعيَّن بل يُصقل ذاته ويُثبت كفاءته. وإتقان فن هندسة الأوامر لم يعد ترفاً، بل شرطاً للبقاء في المشهد الإعلامي. فالانتقال من “الصحفي” إلى “الصحفي المهندس” ليس فقداناً للهوية، بل تطور طبيعي لمسيرة مهنية ترفض التهميش.

زر الذهاب إلى الأعلى