“كاسونغو”.. أغنية الشجن التي تحولت إلى نشيد عالمي على منصات التواصل

ربما مرّت على مسامعك أثناء تصفحك منصات التواصل الاجتماعي أنغام أغنية “كاسونغو”، بإيقاعها الذي يمزج بين الحنين والفرح. فقد تحوّلت هذه الأغنية الكونغولية إلى خلفية موسيقية لملايين الفيديوهات الراقصة والطريفة حول العالم، وأصبحت لازمة تتردد على شفاه الأجيال الجديدة، دون أن يدرك كثيرون القصة العاطفية العميقة التي تختبئ خلف اللحن المبهج.
فرغم ما توحي به من خفة وظرافة، تحمل “كاسونغو” في طياتها نداء شوق وحنين موجع، ورسالة حب ضائع، ظلت صامدة في ذاكرة الموسيقى الأفريقية لأكثر من أربعة عقود.
دموع تتحول إلى لحن خالد
وراء الإيقاع الراقص واللحن الآسر، تختبئ قصة إنسانية ملؤها الفقد والانتظار. فكيف تحولت دموع امرأة كونغولية إلى واحدة من أيقونات الموسيقى في أفريقيا والعالم؟
تفتتح الأغنية بمقدمة رومبا حالمة، حيث تتداخل نغمات الجيتار في “سولو” شجي، مع إيقاعات شرق أفريقيا النابضة بالحياة، ليبدأ صوت المطرب في أداء عاطفي جارف بلغة اللينغالا الكونغولية، ناقلًا مشاعر امرأة أنهكها الغياب.
من نداء حزين إلى شهرة عابرة للحدود
الأغنية منسوبة لفرقة “سوبر مازيمبي”، التي ضمت موسيقيين كونغوليين استقروا في كينيا، وحققت شهرة واسعة خلال سبعينيات القرن الماضي. ورغم انتشارها، بقيت قصة “كاسونغو” الأصلية محاطة بالغموض، إلا أن الرواية الأشهر تعود إلى مأساة حقيقية.
تفيد الرواية بأن كاسونغو، أحد أعضاء الفرقة، اختفى فجأة من منزله، تاركًا زوجته في حيرة وحزن عميقين. وعندما زاره زملاؤه للاطمئنان عليه، لم يجدوه، لكنهم التقوا زوجته المفجوعة التي توسلت إليهم أن يساعدوها في العثور عليه. وبدلًا من اللجوء إلى وسائل تقليدية، قرروا أن يحوّلوا شوقها إلى أغنية تحمل نداءها، لعلها تصل إليه عبر الأثير.
جاءت كلمات الأغنية على لسان زوجته المكلومة:
يا زوجي كاسونغو، عد إلى زواجنا
الشوق يقتلني يا عزيزي
أنا في المنزل، وعيني لا تفارق الطريق
أحدق في الشارع باستمرار
إن كنت ستعود يومًا…
موسيقى من القلب إلى العالم
ما منح “كاسونغو” طابعها العالمي ليس لحنها الساحر فقط، بل أيضًا صدق المشاعر التي بثّتها. الأغنية تنتمي إلى العصر الذهبي لموسيقى الرومبا الكونغولية والسوكوس، الذي ازدهر بين كينشاسا وبرازافيل في الستينيات والسبعينيات، حين كانت العاصمتان مركزين ثقافيين بارزين في أفريقيا.
لعبت لغة اللينغالا دورًا محوريًا في هذا المشهد الفني، حيث أصبحت وسيلة التعبير الموسيقي الموحدة بين شعوب وسط وشرق أفريقيا. وبفضل انتشار الأغاني بهذه اللغة، تحوّلت اللينغالا إلى لغة فنية تتجاوز الحدود السياسية، يتغنى بها الفنانون من نيروبي إلى كينشاسا.
المرأة في قلب الأغنية
ورغم أن الصوت الأنثوي لا يظهر بشكل مباشر في “كاسونغو”، فإن الأغنية تقدم خطابًا نسويًا قويًا، تنقل فيه الفرقة مشاعر امرأة تواجه ألم الفقد والوحدة. إنها تمثيل عاطفي مكثف لدور المرأة كمركز وجداني داخل الأسرة والمجتمع، حيث تُمنح مساحة للتعبير عن الحزن والرجاء، حتى وإن لم تكن هي من تغني فعليًا.
من اللينغالا إلى السواحلية.. ومن الشجن إلى التفاؤل
وفي مقابل “كاسونغو” المحمّلة بالألم، برزت في شرق أفريقيا أغنية “هاكونا ماتاتا” بلغة السواحلية، والتي تعني “لا مشاكل” أو “لا تقلق”. هذه العبارة الشعبية، التي تعكس روح التفاؤل ومواجهة الحياة ببساطة، اكتسبت شهرة عالمية بعد استخدامها في فيلم “الأسد الملك” من إنتاج ديزني عام 1994، ما أثار لاحقًا جدلًا حول الاستحواذ الثقافي وملكية الموروث الشفهي الأفريقي.
لكن كما هو حال “كاسونغو”، أكدت هذه الأغاني قدرة الموسيقى الأفريقية على اختراق الحدود، متى ما كانت تحمل لحنًا صادقًا وروحًا نابضة بالحياة.
رحلة لا تنتهي: من وجع الماضي إلى ترند الحاضر
اليوم، وبفضل منصات مثل تيك توك وإنستغرام، تنبض “كاسونغو يي يي” من جديد. لقد استعادها جيل جديد، وحولها من صرخة حب ضائع إلى نشيد راقص للمواقف اليومية والمقاطع الطريفة. ومع كل إعادة استخدام، تنبعث حياة جديدة في أغنية وُلدت من ألم الغياب.
إن ما يميز “كاسونغو” ليس فقط صوتها الجميل أو لحنها الجذاب، بل قدرتها الفريدة على عبور الزمان والمكان، وإعادة تشكيل معناها مع كل من يستمع إليها. إنها شهادة على أن الموسيقى، حين تُعزف من القلب، تبقى خالدة في الذاكرة الإنسانية.