قصور الثقافة في مصر.. جمهور غائب ومبادرات مستقلة تزدهر

في مساء هادئ بمدينة الإسكندرية شمالي مصر، بدت القاعة الكبرى في قصر ثقافة الشاطبي مستعدة لاستقبال جمهورها؛ المقاعد مُرتبة، ومكبرات الصوت تعمل، والمسرح مضاء، إلا أن المفارقة كانت في حضور لا يتجاوز خمسة أشخاص فقط، بينهم شاعران وصديق لأحد المنظمين.
هذا المشهد لم يكن استثناءً، بل أصبح تكراره سمة بارزة في عشرات قصور الثقافة المنتشرة بمختلف المحافظات المصرية، ما يثير تساؤلات جادة حول أسباب هذا “الغروب الثقافي” في مقابل تصاعد مبادرات أهلية تجتذب جمهورا شابا ومتحمسا.
ورغم امتلاك الهيئة العامة لقصور الثقافة أكثر من 570 قصرا وبيتًا ثقافيا في أنحاء البلاد، فإن معظم هذه المرافق تعاني عزوفا جماهيريا ملحوظا. ففي فعالية شعرية أقيمت مؤخرًا بقصر ثقافة الحرية بالإسكندرية، لم يتجاوز الحضور 10 أشخاص، أغلبهم من أعضاء الصالون الأدبي ذاته، مع ملاحظة تناقص مستمر في الإقبال مع مرور الوقت.
يقول أحد موظفي القصر للجزيرة نت -فضل عدم الكشف عن اسمه- إن الفعاليات تُنظم أسبوعيًا، لكن الحضور يقتصر على الوجوه ذاتها، مشيرًا إلى أن الشباب لا يبدون اهتمامًا، في ظل غياب خطط فعالة وجذابة، وتكرار الأنشطة بطريقة لا تُحفز الجمهور.
أنشطة دون صدى.. وجدولة بلا تأثير
تظهر أجندة الهيئة العامة لقصور الثقافة كثافة في الفعاليات من حيث الكم، لكن المحتوى يعاني ضعفًا في النوع والجاذبية. وتضرب الكاتبة المسرحية ليان موسى مثالا بندوة حول “أثر نجيب محفوظ في الأدب العربي”، التي أُعيد تقديمها ثلاث مرات في أقل من ستة أشهر بثلاثة مواقع مختلفة.
وتؤكد موسى أن الفعاليات الرسمية تفتقر إلى الابتكار، حيث تتكرر العناوين والضيوف، دون أي تجديد. وتتساءل: “كيف يُتوقع من شاب أن يترك هاتفه ليحضر فعالية تُشبه ما كان يُقدم في التسعينيات؟”. وتضيف أن غياب التنسيق بين الفروع، وضعف الترويج، وغياب الوجوه الشابة، جعل من قصور الثقافة مجرد لافتات بلا مضمون حقيقي.
أزمة رؤية وإدارة
يرى عدد من المثقفين أن المشكلة أعمق من مجرد قلة الحضور، وتكمن في غياب الرؤية والاستراتيجيات لدى إدارات هذه المؤسسات. ويؤكد الكاتب منير عتيبة، مؤسس ومدير مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية، أن جمهور الأدب والفكر ظل دائما محدودا بسبب الأمية وضعف الاهتمام بالقراءة، ما يستدعي جهودا تبدأ من التعليم الأساسي لترسيخ حب المعرفة لدى الأطفال.
ويشير عتيبة إلى افتقار المؤسسات الثقافية لوسائل تواصل حديثة، حيث باتت مواقع التواصل الاجتماعي تتفوق عليها في جذب الشباب، في وقت تواصل فيه القصور الاعتماد على وسائل تقليدية لم تعد فعالة.
ويقترح تنسيقا فعالا بين وزارات الثقافة، والتعليم، والشباب، لاكتشاف المواهب منذ الصغر، وتقديم أنشطة غير نمطية تواكب العصر.
من جهته، يرى الدكتور فوزي خضر، الشاعر وعضو المجلس الأعلى للثقافة، أن غياب “الخطة” هو أصل الأزمة، معتبرا أن الفعاليات مجرد جداول تُنفذ لرفع العتب، دون مضمون أو تنوع حقيقي. ويشير إلى تكرار الأسماء ذاتها على المنصات، وتأخر صرف المكافآت للأدباء، ما أضعف ثقة المثقفين وقلل من جودة الأنشطة المقدمة.
أسباب هيكلية وتراجع التمويل
الروائي أحمد هيكل يرى أن تراجع جمهور الفعاليات الثقافية ناتج عن أسباب هيكلية ومجتمعية، في مقدمتها ضعف التمويل، وقلة الكوادر المؤهلة في الدلتا والمحافظات، إضافة إلى مركزية القرار الثقافي، وغياب فهم واضح لوسائل تلقي الثقافة الحديثة مثل البودكاست والفيديو القصير.
ورغم هذا الجمود، تبرز مبادرات أهلية مستقلة نجحت في خلق جمهور متفاعل، مثل مكتبة “الكتب خان” بالقاهرة، التي تنظم حفلات توقيع وورش كتابة وعروض بودكاست، بحضور يتراوح بين 40 و70 شخصًا، مستفيدة من التفاعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
يقول مؤسسها محمد العدوي: “لا نعتمد على دعم الدولة، بل نعرف كيف نخاطب الناس بلغتهم”.
وفي صعيد مصر، تقدم مبادرة “اتجاه” بأسيوط نموذجًا ناجحًا في إشراك الشباب في مسرح الشارع والنقاشات المجتمعية. وتقول مؤسسة المشروع مريم عطية: “بدأنا من الصفر، دون إمكانيات، لكن بالشغف وحده بنينا جمهورا”. وتضيف أن استطلاعًا سابقًا أظهر أن 87% من المشاركين لم يسبق لهم دخول قصر ثقافة، مرجعين ذلك إلى ضعف الدعاية، وملل الفعاليات، وعدم شعورهم بأنها موجهة لجيلهم.
المشهد الثقافي بين الرسمية والحيوية المستقلة
يرى الناقد الأدبي أحمد حافظ أن المشكلة الأساسية تكمن في تركيز القصور على تنفيذ الخطط السنوية الشكلية، بدلًا من التفكير في الجمهور. ويصف المشهد الثقافي في مصر بأنه “مفارقة مؤلمة”: مؤسسات ضخمة بلا جمهور، مقابل مبادرات صغيرة تنبض بالحياة.
ويضيف: “بينما تنتظر القصور جمهورها، اختار الجمهور أن يصنع مساحته الخاصة، بعيدًا عن مقاعد فارغة لا تجذب أحدًا”.
من جانبه، يرى الشاعر جابر بسيوني، أمين صندوق اتحاد الكتاب، أن كثيرًا من المؤسسات الثقافية باتت تُستغل لأغراض شخصية أو سياسية لا تمت للثقافة بصلة، مشيرًا إلى عزوف الشباب عن التدريب الثقافي ورغبتهم في البدء من موقع الأستاذ لا المتعلم.
وينتقد بسيوني ضعف دور الإعلام التقليدي في دعم الثقافة، متهما السلطات بالخوف من الكلمة المستقلة، مما أدى إلى تهميش المثقفين وتقليص حضورهم الإعلامي.
ويشير إلى أن وزير الثقافة الحالي، الدكتور أحمد هانو، وعد بتغيير جذري في إدارة المشهد الثقافي، من خلال الاعتماد على الحوكمة والتنمية المستدامة، وإشراك القطاع الخاص والمجتمع المدني، بل وطرح دور العرض الثقافي للاستثمار بهدف تمويل الأنشطة، وهي خطوات أثارت جدلًا بين المثقفين.
بين العالم الافتراضي وغياب الرؤية.. الثقافة تبحث عن جمهورها
بات العالم الافتراضي بشاشاته الذكية ومحتواه المتجدد بديلاً فعليًا لكثير من المؤسسات الثقافية التقليدية. وبينما تُغلق بعض القصور أبوابها في وجه جمهور لم يعد يجد نفسه فيها، تنجح مبادرات فردية في إعادة تعريف العلاقة بين الثقافة والمجتمع، بلغة جديدة، وشكل أكثر حيوية، وبدون انتظار طويل في قاعة خالية.