فائض الإنتاج في الصين.. معضلة صناعية بين الطموح والسيطرة

رغم التوجيهات الرسمية المتكررة للحد من الإفراط في الإنتاج وضبط فوضى المنافسة، تواجه بكين معضلة صناعية معقدة، يبدو أن حلّها يهدد الركائز الأساسية التي تقوم عليها هيمنتها الاقتصادية، بحسب ما أوردته وكالة بلومبيرغ في تقريرها الأخير.
فمن الحديد والصلب إلى السيارات الكهربائية، ومن الألواح الشمسية إلى تكرير النحاس، لا تزال الصين تُنتج أكثر بكثير مما تحتاجه الأسواق العالمية. ويأتي هذا التوسع ضمن سياق يتداخل فيه الطموح التكنولوجي مع اعتبارات النمو المحلي، وتخوفات متصاعدة من الانكماش.
رسائل رسمية للإصلاح.. ولكن
في الأشهر الماضية، أطلق الرئيس شي جين بينغ وكبار القادة الصينيين دعوات صريحة للتخفيف مما يُوصف داخليًا بـ”المنافسة غير المنضبطة” و”التداخل الصناعي”، مع تشجيع الحكومات المحلية على إغلاق المصانع القديمة غير المجدية اقتصاديًا.
ويرى محللون أن هذه التصريحات تمثل نسخة جديدة من “إصلاحات جانب العرض 2.0”، في إشارة إلى محاولات سابقة قبل نحو عقد من الزمان هدفت لتقليص الطاقة الفائضة. وقد رفعت تلك التوجهات من آمال السوق، إذ ارتفعت أسعار بعض السلع الأساسية مثل خام الحديد والليثيوم، فيما شهدت أسهم قطاع العقارات انتعاشًا نسبيًا على خلفية توقعات بتحفيز حكومي جديد.
لكن، على أرض الواقع، لا تزال المنشآت الإنتاجية—خصوصًا تلك المملوكة للدولة—تعمل بكامل طاقتها، مما يعكس تناقضًا صارخًا بين الخطاب الرسمي والممارسات الفعلية.
الفائض يتمدد من الصناعات التقليدية إلى الحديثة
تُشير بلومبيرغ إلى مفارقة واضحة: أزمة الفائض لم تعد حكرًا على القطاعات التقليدية مثل الفولاذ والنحاس، بل امتدت إلى الصناعات الحديثة التي تراهن عليها الصين لتزعم المستقبل، كأجهزة الطاقة المتجددة والمركبات الكهربائية.
وفي مثال لافت، تواصل مصاهر النحاس العمل بكفاءة عالية، رغم أن شركاتها تُجبر على دفع رسوم تكرير سلبية، أي أنها تخسر المال مقابل استمرار الإنتاج. ويُظهر ذلك حجم التنافس الداخلي الشرس، الذي يدفع الشركات إلى تكبّد الخسائر من أجل الحفاظ على الحصة السوقية.
فائض الإنتاج.. سلاح اقتصادي لا عبء هيكلي
بعيدًا عن النظرة التقليدية للفائض كخلل اقتصادي، يرى بعض الخبراء الذين نقلت عنهم بلومبيرغ أن فائض الإنتاج في الصين يمثل ميزة تنافسية، بل وأداة إستراتيجية. فالمصانع الصينية، بدعم من السياسات المركزية والحكومات المحلية، تواصل العمل بأقصى طاقتها، مدفوعة برؤية ترى في هذا النهج ضمانًا لتفوق صناعي في مواجهة منافسة عالمية متصاعدة، خاصة في الأسواق الناشئة.
وهنا تتجلى المفارقة الأكبر: فبينما تدعو بكين إلى كبح المنافسة العشوائية، لا تبدو مستعدة فعليًا للحد من الإنتاج، طالما أن السيطرة الصناعية لا تزال أولوية وطنية.
الهيمنة الصناعية في مواجهة الاستقرار الداخلي
توضح بلومبيرغ أن جزءًا كبيرًا من فائض الإنتاج مركّز داخل شركات الدولة، مما يصعّب من عملية التقليص دون المساس باستقرار داخلي حساس. هذه الشركات، المحصنة إداريًا، تُعد أذرعًا تنفيذية لخطط التنمية الطويلة، سواء في مجال الأمن الصناعي أو في ضمان الاستقرار الاجتماعي.
ويُذكر أن آخر محاولة جادة لخفض الإنتاج الزائد في أوائل العقد الماضي أدت إلى ارتفاعات مفاجئة في الأسعار، ما دفع المنتجين إلى التوسع أكثر قبل تطبيق القيود، ثم ما لبثت الحكومة أن خفّفت من إجراءاتها تفاديًا لحدوث اضطرابات.
ورغم أن الاقتصاد الصيني سجّل نموًا يفوق التوقعات في الربع الثاني من عام 2025، فإن هذا الانتعاش لم ينعكس على ثقة المستهلك، التي لا تزال ضعيفة بفعل تقلب الأسعار وتراجع فرص العمل.
الاستراتيجية مستمرة.. وحروب الأسعار باقية
تختم بلومبيرغ تقريرها بتأكيد أن الأزمة ليست مجرد إخفاق تنظيمي، بل تجسيد لاستراتيجية صناعية مقصودة تقوم على فائض القوة الإنتاجية، حتى وإن تطلّب الأمر خوض حروب أسعار داخلية وخارجية.
وفي ظل سعيها لتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والحفاظ على الاستقرار السياسي، يبدو أن بكين تُفضل فائض الإنتاج كدرع صناعية في مواجهة تحولات السوق العالمية، مهما كانت التكلفة قصيرة الأجل.