سوق المناخلية.. ذاكرة الحِرفة وروح دمشق العتيقة

يحمل سوق المناخلية في قلب دمشق القديمة اسمًا يقطر من عمق الحِرفة وروح الأرض، كأنه وُلد من رحم الأزقة الضيّقة التي تفوح بروائح الخشب المبتلّ، وتتردّد فيها أصوات المطارق وهي تنسج ألحان الدقّة والإتقان.
في بداياته كان السوق موئلًا لصناعة المناخل والغرابيل، أدوات بسيطة في ظاهرها لكنها مثّلت العمود الفقري لحياةٍ تنبض بالزراعة والتجارة، حياة تستمد قوتها من بساطة الاحتياجات وعمق المعاني. كل منخل خرج من هنا حمل حكاية يدٍ صبورة ودقّة عمل متوارثة، وحفظ في خيوطه جزءًا من ذاكرة الأجداد الذين صاغوا الحِرف كما تُصاغ القصائد؛ موزونة، متأنية، ومتقنة.
لم يكن الاسم مجرد وسمٍ لمكان، بل عنوانًا لزمنٍ كانت فيه الصنعة امتدادًا لكرامة الإنسان واعتزازه بعمله. فالمناخل والغرابيل التي غادرت هذا السوق نحو البيوت الدمشقية لم تكن أدوات فحسب، بل جسورًا من التراب والنبض، تفصل الطيب عن الغثّ وتُعلّم أصحابها أنّ الإتقان أجمل وجوه الوفاء.
ومع انسياب الزمن تغيّرت ملامح السوق، فتمدّدت أنشطته في مسار هادئ لكنه متين. على جانبيه ظهرت محال صغيرة تعرض مواد البناء، وأدوات الحِرف، وخردوات الحياة اليومية، فتحوّل المكان إلى ذاكرة حيّة للمهن الدمشقية، فضاء تختلط فيه الحكايات بأصوات البيع، وتهتز فيه ذاكرة المدينة كلما لامست يدٌ خشبًا عتيقًا أو علبة صدئة تحمل عبق السنين.
لم يكن هذا التحوّل مجرد توسّع مادي، بل انعكاسًا طبيعيًا لمسيرة دمشق نفسها؛ إذ ظلّ السوق مرآة للمدينة وهي تتبدّل، يحتفظ بروحه القديمة وسط كل تغيير، وكائنًا حضريًا حيًا يتنفس مع أهل الحارة، يلتقط أنفاسهم ويعيدها تجارةً وذاكرة متجددة.
اليوم، وبين دكاكينه المتلاصقة، تلتقي الأزمنة كما تلتقي طرق القوافل القديمة. من يقف فيه يسمع وقع أقدام الماضي في حجارة الأرض، ويشمّ في الهواء رائحة الخشب القديم ممزوجة برائحة الوقت. هنا تتحوّل الحِرفة إلى لغة، والصوت إلى ذاكرة، والزمن إلى حكاية تتوالى فصولها جيلا بعد جيل.
إن سوق المناخلية ليس مجرّد شارع ضيّق تصطف فيه المحال، بل نصّ معماريّ مفتوح تتداخل فيه الجغرافيا مع التاريخ، وتنعكس فيه فلسفة دمشق في صون روحها رغم تقلبات العصور. هو المكان الذي تعلّم فيه الدمشقيون أن الحِرفة ليست وسيلة للعيش فحسب، بل شكلٌ من أشكال الانتماء ورسالة تقول إنّ الأيدي التي تعمل بدقّة وصبر إنما تصنع حضارة لا تفنى.