زيت الزيتون في المغرب.. من مكون أساسي في المائدة إلى سلعة بعيدة المنال

في فناء منزله البسيط بأحد أحياء مراكش الشعبية، جلس عبد السلام يتأمل مائدة إفطاره بوجه تغشاه ملامح الحسرة. الزجاجة الوحيدة من زيت الزيتون توشك على النفاد، ولم يعد بوسعه اقتناء أخرى بسهولة كما في السابق.
عبد السلام، موظف في الخمسينات من عمره يعيل أسرة من خمسة أفراد، يستعيد بمرارة ذكريات زمن كان فيه شراء زيت الزيتون أمرًا بسيطًا. يتحدث عن أيام كانت رائحة الزيت الأصلي تملأ البيت، عندما لم يكن سعر اللتر يتجاوز 25 درهمًا (نحو 2.7 دولار)، قبل أن يقفز تدريجيًا إلى 40 درهمًا، ويتجاوز اليوم 100 درهم (الدولار يعادل 9.3 دراهم).
يقول بصوت خافت للجزيرة نت: “كنا نغمس الخبز في زيت العود بسخاء، ونضيفه بسخاء إلى أطباقنا التقليدية. اليوم، نستهلكه بحذر، وأحيانًا تمر أيام لا نجد منه قطرة واحدة في البيت”.
بيئة مثالية وجودة عالمية.. والمواطن هو المتضرر
يُعد المغرب من البلدان ذات المناخ المثالي لزراعة الزيتون، بفضل طقسه المتوسطي المتنوع بين السهول الساحلية وجبال الأطلس، ما يمنح زيت الزيتون المغربي طابعًا نكهويًا مميزًا جعله محط تقدير دولي من بلدان كأميركا وكندا ودول الاتحاد الأوروبي.
وتُوجه 90% من محاصيل الزيتون في المغرب إلى إنتاج الزيت، الذي يُصدَّر إلى دول عديدة من بينها إسبانيا، رغم كونها المنتج الأول عالميًا بنسبة تتجاوز 27% من الإنتاج العالمي، مقابل 0.9% فقط للمغرب.
ويعزو الخبير الاقتصادي سعيد أوهادي هذه المفارقة إلى الجودة العالية والسعر التنافسي للزيت المغربي، الذي يُمزج غالبًا مع زيوت أوروبية لتحسين النكهة وخفض التكلفة. لكنه يُحمِّل هذا التوجه المسؤولية عن ارتفاع الأسعار داخل السوق المحلي، حيث يتحمّل المواطن العبء الأكبر.
توسع زراعي دون مردودية إنتاجية
رغم توسع المساحات المزروعة بالزيتون إلى 1.24 مليون هكتار، بزيادة 60% منذ 2010، تشير التقديرات إلى تراجع الإنتاج خلال موسم 2024-2025 إلى 945 ألف طن، بانخفاض 13% عن الموسم السابق و52% مقارنة بموسم 2021-2022.
ويُرجع الخبير الزراعي رياض وحتيتا هذا التراجع إلى التغيرات المناخية، وخاصة قلة التساقطات وارتفاع الحرارة خلال فترة الإزهار، محذرًا من أن التحول إلى زراعة أصناف أجنبية سريعة الإنتاج قد يُفقد الزيت المغربي جودته الأصيلة.
ويؤكد على ضرورة تعزيز البحث العلمي لتطوير أصناف محلية عالية الإنتاجية، إلى جانب الاستثمار في الزراعة الذكية لمواجهة تحديات المناخ وترشيد استخدام الموارد المائية.
وفي هذا السياق، وقّع المغرب في أبريل 2025 اتفاقية ثلاثية مع المجلس الدولي للزيتون ومنظمة “الفاو”، تهدف إلى الحفاظ على التنوع الوراثي لأشجار الزيتون وضمان استدامة إنتاجها.
التصدير مستمر رغم أزمة الداخل
في ظل تراجع الإنتاج واشتداد الجفاف، يواجه المواطن المغربي ضغوطًا إضافية، خصوصًا مع استمرار التصدير نحو الأسواق الأوروبية التي تعاني أيضًا من أزمات مماثلة.
ويشير الخبير علي الغنبوري إلى أن المغرب صدّر خلال أكتوبر ونوفمبر 2024 نحو 841 طنًا من زيت الزيتون إلى الاتحاد الأوروبي، مستفيدًا من الأسعار العالمية المرتفعة لتحقيق عائدات بالعملة الصعبة.
لكن هذا التوجه التجاري، بحسب الغنبوري، ساهم في تعميق الأزمة داخليًا، بعدما ارتفع سعر اللتر إلى أكثر من 110 دراهم، محولًا زيت الزيتون من مكون شعبي إلى سلعة نخبوية.
ورغم قرار الحظر المؤقت لتصدير زيت الزيتون في أكتوبر 2023، ثم التراجع عنه لاحقًا، يرى الغنبوري أن السياسات لا تزال عاجزة عن إيجاد توازن بين احتياجات السوق المحلية والمصالح الاقتصادية الخارجية.
تدخل حكومي محدود الأثر
سعيًا للحد من تداعيات الأزمة، أعلنت الحكومة عن حزمة إجراءات، منها إخضاع صادرات الزيتون وزيته للترخيص حتى نهاية 2024، وتعليق الرسوم الجمركية على استيراد 10 آلاف طن من زيت الزيتون البكر.
كما نص قانون المالية 2025 على إعفاء 20 ألف طن من واردات زيت الزيتون من الضرائب حتى نهاية العام.
ورغم هذه التدخلات، يرى سعيد أوهادي أن تأثيرها محدود، مشيرًا إلى أن اللجوء إلى الاستيراد يعكس إخفاقًا في تحقيق الاكتفاء الذاتي، رغم المؤهلات الكبيرة التي يتمتع بها المغرب في هذا القطاع.
ويؤكد رياض وحتيتا أن الطلب الداخلي لا يزال يفضل “الزيت البلدي” لما يتمتع به من جودة وطعم أصيل، ما يزيد الضغط على الأسواق ويُعقّد المعادلة بين العرض والطلب.
زيت الزيتون.. من مكون شعبي إلى رمز للرفاه
كل المؤشرات، كما يراها الخبير الغنبوري، تؤكد أن زيت الزيتون يسير نحو التحول إلى سلعة رفاهية، بعدما غادر موائد شرائح واسعة من المغاربة، خصوصًا ذوي الدخل المتوسط والمحدود.
ويطالب الغنبوري بإصلاح جذري للسياسات الحالية، يشمل تخصيص نسبة من الإنتاج للسوق المحلية أو تقديم دعم مباشر للأسر المتضررة، لتجنب تحميل المواطنين تكلفة التوجهات التصديرية.
أما وحتيتا، فيبدي تفاؤلًا مشروطًا بشأن الموسم المقبل، مشيرًا إلى أن التساقطات الأخيرة ساهمت في تحسين الإزهار وعقد الثمار، ما قد يُنذر بموسم أفضل.
وفي ختام المشهد، يبقى عبد السلام يحلم بعودة زيت الزيتون إلى مائدته اليومية، لا كسلعة نادرة، بل كجزء من ذاكرته ووجبة لا تكتمل بدون لمسته العطرية الأصيلة.