دونباس.. عقدة الحرب الروسية الأوكرانية ومعركة الجغرافيا والتاريخ

في ربيع عام 2014، وبعد أسابيع قليلة من ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم، اندلع تمرّد مسلّح في قلب المنطقة الصناعية الأهم بأوكرانيا، والمعروفة باسم إقليم دونباس. حينها رفع الانفصاليون المدعومون من موسكو أعلامهم فوق المباني الحكومية في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك، معلنين قيام جمهوريتين لم تحظيا بأي اعتراف من كييف أو المجتمع الدولي. ومنذ تلك اللحظة، تحوّل الإقليم إلى خط مواجهة مفتوح، تتعاقب فيه هدن هشّة ومعارك دامية، وظلّت السيطرة فيه منقسمة بين الجيش الأوكراني والفصائل الانفصالية.
وفي 24 فبراير/شباط 2022، حين استيقظت أوكرانيا على وقع هجوم روسي واسع انطلق من الشمال والشرق والجنوب في وقت واحد، وجد إقليم دونباس نفسه في قلب العملية العسكرية الروسية، بل أصبح محور المجهود الحربي الأكبر، لكونه البوابة الشرقية للبلاد، والسيطرة عليه شرط أساسي لفرض أي واقع سياسي جديد. وقد اتّخذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من “الجمهوريات الشعبية” في دونيتسك ولوغانسك ذريعة رئيسية لتبرير الغزو، قائلا إنّها طلبت العون من موسكو.
وبعد ثلاث سنوات من الحرب المستمرة، طرح بوتين خلال قمة ألاسكا الأخيرة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 15 أغسطس/آب 2025، مقترحا يقضي بوقف القتال مقابل تنازل أوكرانيا الكامل عن دونيتسك ولوغانسك، مع تجميد خطوط المواجهة في الجنوب. ومنذ ذلك الحين، أصبح دونباس بمثابة العقدة الاستراتيجية للحرب، والجائزة التي يصرّ الكرملين على انتزاعها ثمنا لأي وقف لإطلاق النار.
دونباس.. هوية مشتعلة تحت الأرض
تُقدّم الرواية الروسية الرسمية دونباس بوصفه جزءا من “العالم الروسي”، بحكم غالبية سكانه الناطقين بالروسية وصلاتهم التاريخية والثقافية بموسكو. فقد ارتبط الإقليم بالفضاء الروسي منذ أواخر القرن الثامن عشر مع توسع الإمبراطورية الروسية على حساب العثمانيين، حين شجّعت السلطات القيصرية موجات استيطان روسية في المنطقة المعروفة آنذاك باسم “الحقول البرية”.
وقد شكّل اكتشاف الفحم عام 1721، واستغلاله صناعيا في القرن التاسع عشر، نقطة تحوّل جذبت مئات الآلاف من العمال الروس. ومع التعداد الإمبراطوري لعام 1897، كان الأوكرانيون يشكّلون 52% من سكان الإقليم، مقابل 29% من الروس الذين تركزوا في المدن والمراكز الصناعية. ومع السياسات السوفياتية في عهد ستالين، بما فيها الترحيل القسري والتجويع والمجاعة الكبرى، تغيّرت التركيبة الديمغرافية جذريا، إذ ارتفع عدد الروس إلى 2.5 مليون بحلول 1959، وأصبحوا يمثلون 44% من سكان الإقليم مع آخر تعداد سوفياتي عام 1989.
ومنذ استقلال أوكرانيا، ظلّ دونباس مركزا للنفوذ الروسي السياسي، حيث خرج منه فيكتور يانوكوفيتش، آخر رئيس موالٍ لموسكو، قبل أن تطيحه انتفاضة “الميدان الأوروبي” عام 2014، لتدخل المنطقة بعدها في دوامة صراع انفصالي قاد مباشرة إلى الحرب الكبرى في 2022.
بوابة روسيا إلى البحر ودرع أوكرانيا الشرقي
أهمية دونباس لا تقف عند حدود الهوية والتاريخ، بل تمتد إلى موقعه الجيوسياسي. فمن وجهة نظر موسكو، يمثّل الإقليم جسرا بريا يربط روسيا بالقرم، ويؤمّن ممرّا استراتيجيا لنقل القوات والإمدادات. كما أنّ السيطرة عليه عززت الهيمنة الروسية في بحر آزوف، الذي تحوّل إلى بحيرة داخلية روسية بعد أن حُرمت أوكرانيا من سواحله.
أما بالنسبة لكييف، فيُعد دونباس درعا دفاعيا أساسيا ضد أي تقدّم روسي نحو عمق البلاد، حيث أنشأت أوكرانيا على مدى سنوات “حزام الحصون” شرقيا. سقوط هذه التحصينات سيتيح لموسكو التوغل نحو مدن محورية مثل دنيبرو، وهو ما يجعل المعارك الحالية في كراماتورسك وسلوفيانسك وتشاسيف يار ذات أهمية وجودية بالنسبة لأوكرانيا.
اقتصاد باطن الأرض
يمثل دونباس أيضا خزانا هائلا للموارد الطبيعية. فهو يضم أكثر من نصف احتياطات الفحم الأوكراني، إضافة إلى كميات ضخمة من الغاز الطبيعي والنفط والمعادن النادرة. وقد ساهم الإقليم قبل الحرب بما يقارب ربع الإنتاج الصناعي للبلاد و14% من الناتج المحلي الإجمالي. لذلك ترى روسيا في السيطرة عليه فرصة لتعزيز أمنها الطاقي، وحرمان كييف من أهم مصادر القوة الاقتصادية.
معضلة الحرب
ورغم التقدّم الروسي الكبير، حيث باتت موسكو تسيطر على 88% من مساحة دونباس منتصف 2025، لا تزال المدن الأوكرانية الرئيسية صامدة، ما يجعل أي حسم نهائي بعيد المنال. فالحرب تحوّلت إلى معركة استنزاف طويلة الأمد، تكبّد فيها الطرفان خسائر بشرية ومادية هائلة.
لكن المعضلة الأعمق لبوتين أنّ أي تسوية لا تحقق مكاسب واضحة ستُعتبر هزيمة سياسية داخلية، بينما استمرار الحرب بلا حسم قد ينهك الاقتصاد والمجتمع الروسي. في المقابل، لا تستطيع كييف التنازل عن أراضٍ بعد سنوات من التضحيات، فيما يرفض الغرب منح موسكو “انتصارا” يعيد رسم الحدود بالقوة.
خاتمة
هكذا، يظل إقليم دونباس عالقا بين مطرقة الجغرافيا وسندان السياسة والاقتصاد، بصفته العقدة الأكثر تعقيدا في الصراع الروسي الأوكراني، ومحور رهانات الأمن الأوروبي بأسره. وحتى إشعار آخر، سيبقى دونباس ساحة مفتوحة لصراع طويل، تتبدل فيه خرائط السيطرة لكن تبقى معادلة الحرب بلا حل حاسم.