اقتصاد

تحويلات المغتربين السوريين.. من طوق نجاة معيشية إلى فرصة مهدورة للتنمية الاقتصادية

تُعدّ تحويلات المغتربين السوريين اليوم شريانًا أساسيًا لحياة ملايين الأسر داخل البلاد، ممن فقدوا مصادر رزقهم أو تراجعت قدرتهم الشرائية بصورة حادّة خلال سنوات الحرب الطويلة. فقد شكّلت هذه التحويلات مصدر الدخل الرئيس لشريحة واسعة من السوريين، وأسهمت في تخفيف آثار الأزمة المعيشية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد منذ أكثر من عقد.

ومع موجات الهجرة الجماعية والفردية التي شهدتها سوريا خلال السنوات الماضية، ارتفع حجم الحوالات المالية بشكل غير مسبوق. غير أن تأثيرها في الاقتصاد الوطني ظلّ محدودًا بفعل القيود المالية والسياسات النقدية السابقة، التي كبّلت حركة الأموال وفرضت احتكار تداول العملات الأجنبية عبر عدد محدود من شركات الصرافة، مما دفع جزءًا كبيرًا من هذه التدفقات إلى القنوات غير الرسمية والسوق السوداء، وحرم الاقتصاد السوري من موارد حيوية كان يمكن أن تساهم في تعافيه.

ورغم أن الحكومة السورية الحالية اتخذت خطوات لإلغاء تلك القيود، وسمحت بتوسيع نطاق التعاملات بالعملات الأجنبية، فإن معظم هذه التحويلات ما زال يُستهلك في الإنفاق الأسري المباشر دون أن يتحول إلى استثمارات منتجة أو برامج ادخارية طويلة الأجل ترفد الاقتصاد بموارد مستدامة.

هذا الواقع يطرح تساؤلًا محوريًا: كيف يمكن تحويل أموال المغتربين من مجرد وسيلة لتأمين المعيشة إلى رافعة اقتصادية حقيقية؟

أدوات مالية مبتكرة لتحفيز الاستثمار

يرى خبراء اقتصاديون أن الاقتصاد السوري، الذي أنهكته الحرب والعقوبات، يحتاج اليوم إلى كل فرصة متاحة لإعادة بناء قدراته، وأن تحويلات المغتربين يمكن أن تشكّل فرصة استراتيجية إذا أُحسن توظيفها.

وفي هذا السياق، يشير الدكتور حسن غرة، الخبير الاقتصادي، إلى إمكانية تحويل هذه التحويلات من إنفاق استهلاكي إلى استثمار طويل الأمد عبر تطوير أدوات مالية مبتكرة مثل “سندات المغتربين”، وهي أوراق مالية يمكن للدولة إصدارها بعوائد تنافسية وضمانات حكومية، بهدف جذب مدخرات المغتربين واستثمارها في مشاريع تنموية.

ويقترح غرة دمج هذه السندات مع صناديق استثمار قطاعية وبرامج ادخار مرتبطة بالتحويلات، مع تقديم حوافز مالية وضريبية للمغتربين، معتبرًا أن تجربة “صندوق التنمية السوري” الذي تمكن من جمع أكثر من 80 مليون دولار تُعدّ قاعدة صلبة لتطوير مبادرات مشابهة.

ويتفق معه الخبير الاقتصادي ملهم الجزماتي، الذي يرى أن ابتكار أدوات مالية جديدة كـ”سندات المغتربين” يمكن أن يموّل مشاريع استراتيجية في قطاعات الطاقة والزراعة والمواصلات، شرط أن تكون هذه الأدوات مدعومة بضمانات موثوقة وعوائد بالدولار، مع الالتزام بالشفافية ونشر تقارير دورية عن سير المشاريع. كما يشير إلى أهمية الاستفادة من تجارب دول مثل مصر وإثيوبيا التي نجحت في استقطاب أموال جالياتها لدعم التنمية.

ويضيف الجزماتي أن إطلاق صناديق استثمارية خاصة بالمغتربين يمكن أن يفتح الباب أمامهم للمشاركة في مشاريع واعدة في مجالات التكنولوجيا والطاقة المتجددة والعقارات، إلى جانب إمكانية إنشاء برامج تمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، وإصدار شهادات ادخار بالدولار بعوائد ثابتة لجذب مدخراتهم إلى داخل النظام المصرفي الرسمي.

استعادة الثقة بالنظام المصرفي

يشدد الخبراء على أن نجاح أي مبادرة لاستثمار تحويلات المغتربين يرتبط بشكل مباشر بمستوى الثقة في النظام المصرفي. ويؤكد الجزماتي أن علاقة المغتربين السوريين بالبنوك المحلية تعاني أزمة ثقة عميقة تراكمت لسنوات بسبب فقدان الودائع، وتجميد الحسابات، والانهيار الحاد في قيمة الليرة السورية، وغياب الشفافية في الإدارة المالية خلال حقبة النظام السابق.

هذه العوامل دفعت المغتربين إلى الابتعاد عن القنوات الرسمية والاعتماد على السوق السوداء لتحويل أموالهم، وهو ما كلّف الاقتصاد السوري مليارات الدولارات المفقودة كان يمكن أن تدخل المصارف لو توفرت بيئة مالية آمنة وشفافة.

ولمعالجة هذا الخلل، يقترح الجزماتي مجموعة خطوات عملية، أبرزها:

  • نشر تقارير مالية دورية تعتمد أعلى معايير الشفافية والحوكمة.
  • إنشاء آليات مستقلة لحماية المودعين وضمان أموالهم.
  • إشراك شركات تدقيق دولية وصناديق سيادية كأطراف ضامنة.
  • سنّ تشريعات تحمي أموال المغتربين من أي تجميد تعسفي.
  • تأسيس محاكم متخصصة للفصل السريع في النزاعات المصرفية.
  • تطوير بنية تكنولوجية حديثة للمصارف لتوفير منصات رقمية آمنة للمغتربين تمكنهم من إدارة أموالهم من الخارج بسهولة.

من الحوالات إلى التنمية

يرى الدكتور حسن غرة أن توجيه 30% فقط من تحويلات المغتربين نحو الاستثمار يمكن أن يخلق أثرًا اقتصاديًا مضاعفًا يتمثل في زيادة الإنتاج، وتوفير فرص عمل، وتحويل الهجرة القسرية إلى محرك للتنمية.

ويؤكد أن ربط التحويلات بحوافز ضريبية وجمركية سيشجع المغتربين على استخدام القنوات الرسمية، ويمنحهم دافعًا إضافيًا لتخصيص جزء من أموالهم للاستثمار بدلًا من الاستهلاك المباشر.

ويشير إلى أن تجارب الدول النامية أثبتت فعالية هذه الآليات حين تُصمم بعناية، إذ ساعدت على استقطاب تحويلات المغتربين وتحويلها إلى مشاريع منتجة، شريطة تجنب استغلالها في التهرب الضريبي أو المضاربة المالية.

أما الخبير ملهم الجزماتي، فيرى أن تقديم حوافز مالية مغرية مثل الإعفاءات الضريبية والتسهيلات الائتمانية، إلى جانب شهادات ادخار مضمونة، والتعاون مع شركات تحويل دولية، يمكن أن يجعل من هذه التحويلات أداة تنمية حقيقية، لكنه يشدد على أن ذلك لن يتحقق إلا في ظل استقرار اقتصادي ونقدي شامل ومعالجة ملف العقوبات الدولية الذي يشكل العائق الأكبر أمام أي إصلاح مصرفي جاد.

طوق نجاة لأسر الداخل

تبقى تحويلات المغتربين اليوم بمثابة طوق نجاة لملايين الأسر السورية التي تعتمد عليها لتأمين احتياجاتها الأساسية من السكن والتعليم والصحة وسط استمرار تدهور المعيشة.

وفي هذا السياق، أكد عبد القادر حصرية، حاكم مصرف سوريا المركزي، أن الأموال الواردة من الخارج أصبحت “شريان حياة للاقتصاد الوطني”، بعد تراجع القطاعات الإنتاجية بفعل الحرب والعقوبات.

وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن نحو 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وقرابة ثلثي السكان يعانون الفقر المدقع، ما يجعل تحويلات المغتربين عاملًا حاسمًا في صمود المجتمع السوري واستقراره.

نحو رؤية اقتصادية شاملة

يبقى التحدي الأكبر أمام الحكومة السورية هو الانتقال من مرحلة استهلاك التحويلات إلى استثمارها. فهذه الموارد المالية، إذا أُحسن توجيهها، يمكن أن تشكل أحد أعمدة إعادة الإعمار والتنمية المستدامة، بدل أن تبقى مجرد وسيلة لتأمين الاحتياجات اليومية.

وبينما تستمر الأزمة الاقتصادية في استنزاف موارد البلاد، تبقى أموال المغتربين فرصة حقيقية لكتابة فصل جديد من التعافي الوطني، شرط أن تترافق مع إصلاحات مصرفية، وضمانات مؤسسية، ورؤية اقتصادية شاملة تعيد بناء الثقة وتفتح الباب أمام الاستثمار والإنتاج من جديد.

زر الذهاب إلى الأعلى