اقتصاد

تجارة “بريكس” البينية.. أرقام محدودة وتحديات هيكلية رغم الطموحات الكبرى

تُعدّ التجارة البينية واحدة من المؤشرات الجوهرية التي تُعبر عن مدى قوة العلاقات الاقتصادية داخل التكتلات الدولية، وعادةً ما تعكس حجم التعاون والتكامل بين دول التجمع، أو على العكس، تكشف عن محدودية التفاعل الفعلي بينها. وقد برز هذا الجانب بوضوح في الحرب التجارية التي شنّها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ضد الصين ودول أخرى، في ضوء العجز الضخم الذي تعانيه التجارة الخارجية الأميركية، والذي بلغ نحو 1.29 تريليون دولار في عام 2024، وفق بيانات البنك الدولي.

وفي المقابل، صرّح كيريل ديمترييف، الممثل الخاص للرئيس الروسي، قبل أيام قليلة من انعقاد القمة السابعة عشرة لمجموعة “بريكس” في البرازيل (6-7 يوليو/تموز 2024)، بأن قيمة التجارة البينية لدول “بريكس” بلغت تريليون دولار، وهو رقم أعلنه بفخر، في إشارة إلى ما يعتبره نجاحًا اقتصاديًا للتجمع.

لكن عند قراءة هذا الرقم في سياق أوسع، يظهر أن التجارة البينية للتجمع ما تزال محدودة، ولا تتجاوز المعدلات المعتادة للتكتلات الاقتصادية في الدول النامية، بل وتُقارن ببعضها سلبًا.

التجارة البينية بين الطموح والواقع

رغم التقدم الملحوظ، فإن نسبة التجارة البينية بين دول “بريكس” -وفق الرقم المُعلن- لا تتجاوز 9.2% من إجمالي تجارة التكتل البالغة 10.8 تريليونات دولار، استنادًا إلى بيانات البنك الدولي. وهذه النسبة تُعد متواضعة مقارنة بتجمعات أخرى:

  • الاتحاد الأوروبي: تتراوح التجارة البينية بين دوله بين 50% و75%، ما يعكس درجة عالية من التكامل.
  • الآسيان: تصل نسبة التجارة البينية إلى 25%، وهي نسبة متوسطة تعكس تنسيقًا اقتصاديًا مقبولًا.
  • الدول العربية: لا تزال النسبة تراوح بين 8% و10% لعقود، بسبب ضعف البنية التكاملية واعتماد معظم الدول على شركاء غير عرب في تجارتها الخارجية.

نقص الشفافية الإحصائية

رغم مرور أكثر من 15 عامًا على تأسيس “بريكس”، لا تزال الشفافية الإحصائية نقطة ضعف بارزة. فالموقع الرسمي للتكتل يفتقر إلى قاعدة بيانات موحدة يمكن من خلالها تتبع مؤشرات الأداء الاقتصادي لأعضائه، بخلاف التجمعات الأوروبية مثل الاتحاد الأوروبي أو حتى مؤسسات العمل العربي المشترك، التي تعتمد على قواعد بيانات دولية لتحديث المؤشرات.

ويؤدي غياب هذه القواعد الإحصائية إلى صعوبة تقييم الأداء الحقيقي للتجمع، ويترك المجال مفتوحًا أمام التقديرات الإعلامية والتوظيف السياسي في قراءة إنجازات “بريكس”.

التركز الصيني في التجارة البينية

تُهيمن الصين على الحصة الأكبر من التجارة الخارجية لدول “بريكس”، حيث تمثل تجارتها ما قيمته 6.1 تريليونات دولار من أصل 10.8 تريليونات، أي ما نسبته 56.4%. أما الدول الأخرى فتمثل نسبًا متواضعة:

  • جنوب أفريقيا: 233 مليار دولار
  • مصر: 128 مليار دولار
  • إثيوبيا: 15.7 مليار دولار فقط

ووفق بيانات الجمارك الصينية، بلغ حجم التبادل التجاري مع روسيا وحدها 245 مليار دولار في عام 2024، ما يعادل ربع التجارة البينية للتكتل تقريبًا. وإذا أضفنا تعاملات الصين مع بقية دول “بريكس”، يتبين أن بكين تستحوذ على ما لا يقل عن 60% من التجارة البينية، ما يجعل وضعها داخل “بريكس” مماثلًا لدور الولايات المتحدة في هيمنة علاقاتها التجارية على التجمعات الأخرى.

نسب هزيلة إلى الناتج المحلي

عند مقارنة قيمة التجارة البينية البالغة تريليون دولار بالناتج المحلي الإجمالي لدول التكتل مجتمعة، نجد أنها لا تتجاوز 3.3%، وهي نسبة منخفضة جدًا تُشير إلى غياب التكامل الحقيقي بين اقتصادات الدول الأعضاء.

تحولات جيوسياسية وتأثيراتها التجارية

تسببت الحرب الروسية الأوكرانية منذ عام 2022 في إعادة توجيه جزء كبير من التجارة الروسية من الغرب نحو الصين والهند، وباتت بكين الشريك التجاري الأول لموسكو. وإذا ما تم التوصل إلى تسوية سياسية للحرب، فمن المتوقع أن تُعيد روسيا ترتيب أولوياتها التجارية مجددًا لصالح الاتحاد الأوروبي.

الوضع نفسه يُحتمل أن يحدث مع إيران، في حال رُفعت عنها العقوبات الدولية، فهي بحاجة ماسة إلى استعادة علاقاتها التجارية مع أوروبا، التي كانت تمثل شريكها الأول حتى عام 2012.

مسارات ضرورية لتعزيز التجارة البينية

التكامل الاقتصادي لا يُبنى بالشعارات أو النوايا، بل يحتاج إلى بنية إنتاجية قوية وقواعد تنافسية واضحة. وهذا يتطلب:

  • زيادة الاستثمارات البينية.
  • نقل وتوطين التكنولوجيا.
  • تحقيق تنمية شاملة في الدول الأعضاء الأقل نموًا.
  • توسيع استخدام العملات المحلية في التجارة البينية لتقليل الاعتماد على الدولار، رغم أن نجاح ذلك يتطلب توافر سلع وخدمات صناعية وتكنولوجية متبادلة.

كما أن الوقت وحده لا يكفي لتحقيق هذا التكامل، ما لم تُتخذ خطوات مؤسسية عملية، مثل إطلاق منطقة تجارة حرة بين دول “بريكس”، وهو أمر لم يتحقق حتى الآن، رغم أن معظم دول التجمع أعضاء في منظمة التجارة العالمية، باستثناء إيران.

التحديات المستقبلية أمام “بريكس”

يواجه التجمع تحديين أساسيين في المرحلة القادمة:

  1. التحول من الخطاب السياسي إلى السياسات الاقتصادية الفاعلة، خاصة في ما يتعلق بالمطالب المتعلقة بعدالة التجارة وموازين القوى الاقتصادية مع الغرب.
  2. إرساء برامج زمنية واضحة لتعزيز التكامل، تُلزم الدول الأعضاء بإعادة هيكلة اقتصاداتها بما يتماشى مع متطلبات البقاء ككتلة فاعلة وليس مجرد تكتل احتجاجي.

وإلا، فإن “بريكس” سيظل مجرد تكرار لصورة نمطية لتكتلات الجنوب التي ترفع الشعارات في مواجهة الغرب، دون أن تمتلك الأدوات اللازمة للتأثير الفعلي في النظام الاقتصادي العالمي.

زر الذهاب إلى الأعلى