بولندا بين التصعيد الروسي والتحوّل إلى قوة عسكرية أوروبية كبرى

مع فجر العاشر من سبتمبر/أيلول الجاري، أطلقت روسيا 19 طائرة مسيّرة من داخل الأراضي البيلاروسية، حليفتها الأقرب، لتخترق عمق الأجواء البولندية. بعض هذه المسيّرات أسقط، وأخرى تحطمت في الجو، لكن الحدث وقع من دون تسجيل خسائر بشرية.
موسكو برّرت ما حدث بكونه نتيجة “انحراف بسبب تشويش إلكتروني”، غير أن خبراء الدفاع الغربيين اعتبروا التفسير غير منطقي، مرجّحين أن الأمر اختبار متعمد لمدى جاهزية ورد فعل حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وعلى وقع هذا التطور، فُعّلت المادة الرابعة من ميثاق الناتو لفتح مشاورات طارئة بين أعضائه، إذ عُدّ ما حدث “أخطر خرق للأجواء الأطلسية منذ تأسيس الحلف”. ويرى بعض الخبراء أن ما جرى يمثل تصعيدا جديدا في سلسلة الانتهاكات الروسية، وهو ما دفع أصواتا داخل الغرب للمطالبة بإعلان سياسة واضحة تقضي باعتراض أي مسيّرة أو صاروخ يخترق أجواء دول الحلف فورا، مع تعزيز الدفاعات الجوية والدوريات الجوية في بولندا ودول البلطيق، بل والدفع نحو إستراتيجية “الدفاع الأمامي”، أي إسقاط التهديدات داخل أوكرانيا أو بيلاروسيا قبل وصولها إلى حدود الناتو.
بولندا واستراتيجية الاستعداد المسبق
اللافت أن بولندا لم تنتظر أن تصل موسكو إلى حدودها حتى تتخذ إجراءات دفاعية، بل استعدت منذ سنوات لمواجهة سيناريوهات مماثلة. ففي 2023 أعلن وزير الدفاع البولندي ماريوس بلاشتشاك عن صفقة تاريخية لشراء 486 وحدة إطلاق وتحميل من نظام “هيمارس” الأميركي، وبدأ التسليم في مايو/أيار 2025. هذه ليست الصفقة الأولى، إذ سبق لبولندا أن تسلمت 18 راجمة من الطراز ذاته بقيمة 414 مليون دولار.
نظام “هيمارس” يعد من أكثر أنظمة المدفعية الصاروخية تقدما في العالم، ويملك قدرة إطلاق ستة صواريخ موجهة بدقة خلال دقائق قليلة، بمدى يصل إلى 80 كيلومترا، مع إمكانية استخدام صواريخ تكتيكية يصل مداها إلى 300 كيلومتر. الأهم من ذلك أن بولندا حصلت على تكنولوجيا التصنيع، ما يفتح الباب أمام إنتاجها محليا مستقبلا.
إنفاق عسكري غير مسبوق
ما تقوم به وارسو يتجاوز مجرد التسلح؛ إنه تحول إستراتيجي شامل. فبحلول 2022 أنفقت بولندا 2.4% من ناتجها المحلي على الجيش، ثالث أعلى نسبة في الناتو، وهي تسعى لرفعها إلى 4% ثم 5% خلال العقد المقبل. هذه الخطط تجعل بولندا مرشحة لتكون القوة العسكرية الأولى في أوروبا بحلول نهاية العقد، متجاوزة قوى تقليدية مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا.
تسليح متعدد الأبعاد
البرنامج البولندي يشمل مروحة واسعة من الأسلحة:
- مدافع K9 Thunder الكورية: نحو 700 وحدة ذات قدرات نارية فائقة ومناورة عالية.
- مقاتلات F-35 الأميركية: 32 طائرة جيل خامس متعددة المهام، قادرة على التخفي والحرب الإلكترونية، تضاف إلى أسطولها الحالي من F-16.
- دبابات أبرامز الأميركية: 250 دبابة جديدة، إضافة إلى 116 مستعملة و200 دبابة ليوبارد ألمانية.
- مركبات مدرعة وبورسوك برمائية: آلاف الوحدات لدعم الفرق المدرعة.
- بطاريات باتريوت: 8 منظومات دفاع جوي وصاروخي بقيمة 15 مليار دولار.
كما تعتزم بولندا رفع عدد جنودها إلى 300 ألف بحلول 2035، وتشكيل 6 فرق مدرعة كاملة التجهيز، وهو ما يفوق بكثير قدرات جيوش كبرى أوروبية.
بولندا في قلب التوازن الأوروبي الجديد
هذا السباق البولندي نحو التسلح لا ينفصل عن التحولات الجيوسياسية التي أحدثتها الحرب الروسية على أوكرانيا. فمع انتقال مركز ثقل الناتو تدريجيا من باريس وبرلين إلى وارسو ودول البلطيق، تبدو بولندا مرشحة لتكون “مارد أوروبا العسكري الجديد”.
ورغم افتقارها إلى القوة الناعمة، فإنها تعزز تحالفاتها من خلال مجموعة فيشغراد ومبادرة البحار الثلاثة، وتطرح نفسها درعا متقدما في مواجهة التوسع الروسي. لكن يبقى السؤال: هل يشكل التصعيد الروسي تجاه بولندا شرارة محتملة لانزلاق أوروبا إلى مواجهة أوسع قد تتحول إلى حرب عالمية ثالثة؟