الولايات المتحدة وفنزويلا.. من حرب المخدرات إلى مواجهة جيوسياسية مفتوحة

وسط انشغال العالم بوحشية الحرب الإسرائيلية في غزة، وبالتصعيد المستمر بين روسيا وأوكرانيا، ومع وعود الإدارة الأميركية المتناقضة بإنهاء النزاعين، بدأت تبرز ملامح جبهة جديدة في منطقة أخرى من العالم.
ففي الثاني من سبتمبر/أيلول الجاري، نشر الرئيس الأميركي دونالد ترامب مقطعًا قصيرًا يُظهر عملية للجيش الأميركي في البحر الكاريبي تم خلالها تفجير زورق سريع. وقال ترامب إن الزورق يعود إلى عصابة فنزويلية تُعرف بـ”ترين دي أراغوا”، كانت تستغله لتهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة.
لاحقًا، أكد وزير الخارجية والقائم بأعمال مستشار الأمن القومي، ماركو روبيو، خلال زيارته للمكسيك، أن العملية أسفرت عن مقتل 11 شخصًا، مضيفًا أن الرسالة واضحة: “التدمير هو الحل”، وليس الاكتفاء بالتوقيف أو مصادرة الشحنات.
أثار هذا التصعيد جدلًا واسعًا حول قانونية استخدام القوة المميتة في قضايا يفترض أن تتولاها أجهزة إنفاذ القانون، بينما اعتبر البيت الأبيض أن ما جرى يندرج ضمن “قوانين النزاعات المسلحة”، مبررًا ذلك بكون المخدرات تقتل 100 ألف أميركي سنويًا، وبالتالي فإن تهريبها يُعد تهديدًا يعادل هجومًا مسلحًا على الولايات المتحدة.
لكن خلف هذا التبرير، تبدو العملية جزءًا من مشهد أوسع، إذ سبقتها أكبر عملية انتشار عسكري أميركي في البحر الكاريبي منذ نهاية الحرب الباردة، شملت سفنًا حربية وغواصة نووية وقوات مشاة بحرية قوامها 2500 جندي. وهو ما دفع مراقبين إلى القول إن الهدف يتجاوز مكافحة المخدرات، وصولًا إلى تقويض نظام الرئيس نيكولاس مادورو.
تزامن ذلك مع تحذيرات في الداخل الأميركي، حيث اعتبر السيناتور الديمقراطي كريس ميرفي أن مستشاري ترامب “دعاة الحرب” يسعون إلى جر واشنطن نحو نزاع جديد مع فنزويلا.
التصعيد الأميركي ضد كاراكاس
ترى الدوائر الرسمية الأميركية أن مادورو رئيس “فاقد للشرعية” بعد انتخابات 2024، وتتهمه بقيادة شبكات لتهريب المخدرات. وفي خطوة لافتة، أعلنت وزارة العدل مضاعفة المكافأة لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض عليه لتصل إلى 50 مليون دولار، إضافة إلى مصادرة مئات ملايين الدولارات من أصول يملكها.
مادورو من جانبه هدد بـ”نضال مسلح منظم” في حال تعرضت بلاده لهجوم، وأعلن تعبئة 4.5 ملايين من أفراد الميليشيا المدنية، لكنه دعا في الوقت ذاته واشنطن إلى الحوار والتخلي عن سياسة تغيير الأنظمة في أميركا اللاتينية.
جذور الصراع
تعود جذور المواجهة إلى عقود من التوتر والعقوبات الأميركية، والتي تصاعدت مع صعود هوغو تشافيز إلى الحكم عام 1999. ومع وفاته وانتقال السلطة إلى مادورو عام 2013، تضاعفت الضغوط، خصوصًا مع انهيار أسعار النفط عام 2014 الذي فجّر أزمة اقتصادية خانقة، تفاقمت بفعل العقوبات الأميركية الصارمة.
خلال العقد الماضي، تحوّل الاقتصاد الفنزويلي إلى حالة انهيار شبه كامل، حيث انكمش بنسبة 80% وفق صندوق النقد الدولي، وارتفعت معدلات الفقر إلى أكثر من 82%، بينما اضطر نحو 7 ملايين فنزويلي إلى مغادرة البلاد.
لعبة جيوسياسية أكبر
لم يقتصر الصراع على ثنائية واشنطن – كاراكاس، بل ارتبط أيضًا بتحالفات خارجية. فقد عززت روسيا وجودها العسكري والاقتصادي في فنزويلا، بينما أصبحت الصين والهند وجهتين رئيسيتين للنفط الفنزويلي. كما أسهمت إيران وكوبا في مد مادورو بدعم اقتصادي وأمني، في مواجهة العقوبات الأميركية.
هذه الشبكة من العلاقات أزعجت واشنطن بشدة، خصوصًا مع استخدام كاراكاس أوراق النفط والهجرة كورقة ضغط. فالإدارة الأميركية الحالية لا ترى في ملف المخدرات سوى واجهة لصراع أعمق، هدفه إعادة ضبط موازين القوة في “الفناء الخلفي” للولايات المتحدة.
ما بعد “زورق الكاريبي”
يطرح مشهد استهداف الزورق تساؤلات كبرى: هل تسعى واشنطن لتكرار سيناريو بنما عام 1989 مع الجنرال نورييغا؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه “دبلوماسية بوارج” للضغط على النظام الفنزويلي من الداخل؟
التقديرات الراجحة تميل إلى أن الولايات المتحدة ليست بصدد غزو شامل لبلد بحجم فنزويلا، لكن الضغوط العسكرية والاقتصادية والسياسية ستستمر وربما تتصاعد لتشمل ضربات محدودة، أو محاولات لإضعاف مادورو عبر إحداث شرخ داخل النخبة الحاكمة.
وفي النهاية، تبدو الأزمة الفنزويلية مجرد حلقة في استراتيجية أميركية أشمل، تهدف إلى إعادة ترتيب الساحة الإقليمية استعدادًا لمواجهة خصوم دوليين أكبر، وفي مقدمتهم الصين.