المغرب يواصل خطواته نحو إطلاق الدرهم الرقمي لتعزيز السيادة المالية وتسريع التحويلات عبر الحدود

يواصل بنك المغرب (البنك المركزي) دراسة مشروع إطلاق عملة رقمية مركزية تحمل اسم “الدرهم الرقمي”، في خطوة استراتيجية تهدف إلى تسهيل المعاملات المالية بين الأفراد، وتبسيط وتسريع التحويلات عبر الحدود، خاصة في ظل الاعتماد المتزايد للاقتصاد المحلي على تحويلات الجالية المغربية والتجارة الدولية.
وفي مؤتمر عقد بالرباط بتاريخ 21 يوليو/تموز 2025، أكد عبد اللطيف الجواهري، والي بنك المغرب، أن المملكة تواصل هذا التوجه في إطار تعاون دولي وثيق يشمل كلًا من البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والبنك المركزي المصري، من أجل تقييم الآثار الاقتصادية والتنظيمية المترتبة على تبنّي العملة الرقمية.
إطار قانوني قيد الإعداد
وأوضح الجواهري أن مشروع قانون خاص بتنظيم الأصول الرقمية يخضع حاليًا للمراجعة لدى وزارة المالية، وهو ما يعكس حرص المغرب على بناء إطار تشريعي متين يواكب التطورات المتسارعة في هذا المجال، ويضمن سلامة استخدام الأصول الرقمية على المستويين الوطني والدولي.
تأتي هذه الخطوة في ظل ارتفاع قيمة التحويلات المالية نحو المغرب والتي بلغت 117.7 مليار درهم (12 مليار دولار) في عام 2024، وهو ما يمثل نحو 8% من الناتج المحلي الإجمالي، فضلًا عن بطء الإجراءات وكلفة التحويلات باستخدام الأنظمة المالية التقليدية.
عملة رقمية مركزية وليست مشفّرة
ويحرص البنك المركزي على توضيح الفرق الجوهري بين “العملة الرقمية المركزية” التي ستصدر تحت إشرافه، والعملات المشفّرة غير المنظمة التي يحظر تداولها في المغرب منذ عام 2017، رغم استمرار بعض التعاملات غير الرسمية عبر وسائل غير قانونية.
تحول رقمي يقوده البنك المركزي
ويشهد القطاع المصرفي المغربي تحولًا متسارعًا نحو الرقمنة، مدفوعًا بطموحات واضحة لتعزيز السيادة الرقمية وتقوية الاستقلال المالي والتقني. ويؤكد الباحث في الاقتصاد الرقمي جمال الأمين أن هذا التوجه انعكس في تطور خدمات الدفع عبر الهاتف المحمول والمصرفية المفتوحة، غير أن التحويلات الدولية لا تزال مرهونة بشبكة “سويفت” ونظام البنوك المراسلة التقليدي.
فرص استراتيجية وأثر اقتصادي
من جانبه، يرى أسامة الواسيني، الخبير في الذكاء الاقتصادي وسلاسل الإمداد، أن تبنّي الدرهم الرقمي سيمثل تحولًا نوعيًا في الأداء المالي الوطني، إذ يوفّر سرعة فورية في التحويلات العابرة للحدود، ويعتمد على أحدث تقنيات التشفير لحماية البيانات، مما يقلل من مخاطر الاحتيال وغسل الأموال، ويعزز الشفافية المالية.
ويؤكد أن تقليل الاعتماد على الدولار واليورو سيخفف تقلبات أسعار الصرف، ويمنح المغرب مرونة أكبر في علاقاته الاقتصادية الإقليمية والدولية، إلى جانب تحفيز اندماجه في سلاسل القيمة العالمية.
تحديات قانونية وتنظيمية
غير أن هذا التحول الرقمي الطموح يواجه تحديات تنظيمية وأمنية، تستدعي حسب الخبير بدر بلاج، إعداد إطار قانوني صارم يشمل:
- مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب،
- الامتثال لمعايير مجموعة العمل المالي (FATF)،
- تحديد الجهات المخولة بإصدار وتداول الدرهم الرقمي،
- تنظيم المحافظ والمنصات الرقمية،
- وضع سقوف واضحة للتحويلات،
- وتحديد النظام الضريبي المرتبط بالمعاملات الرقمية، خصوصًا عبر الحدود.
كما شدد على ضرورة حماية المعطيات الشخصية، وتوفير آليات قانونية لضمان الخصوصية والشفافية في آن معًا.
الدرهم الرقمي والشمول المالي
من جهته، يرى الخبير في التدبير المالي عبد الإله العطار أن إطلاق الدرهم الرقمي سيساهم في توسيع نطاق الشمول المالي، خاصة في المناطق التي تعاني من ضعف الخدمات البنكية. وأشار إلى أن التطبيق سيتم بشكل تدريجي، كما حدث في تجارب دولية مشابهة، مع ضرورة توفير بنية تحتية تقنية قوية.
وقد ارتفع معدل الشمول المالي في المغرب إلى 44% عام 2023، مقارنة بـ29% عام 2017، وتطمح وزارة المالية إلى رفعه إلى 70% أو أكثر خلال العقد القادم.
إطار قانوني متكامل.. ضرورة ملحة
يشدد العطار على أن أي ابتكار مالي لا يمكن تبنّيه دون توفر إطارين أساسيين: القانوني والتنظيمي، مستدلًا بتجربة “المالية التشاركية” التي تأخر تفعيلها في المغرب حتى صدور قانون خاص بها.
ويذهب جمال الأمين إلى اقتراح إصدار نسختين من الدرهم الرقمي، إحداهما للاستخدام المحلي، وأخرى للتعاملات الدولية، مع ربط كل معاملة بهوية رقمية موثقة، واعتماد تقنية البلوكتشين لضمان الشفافية ومكافحة المضاربة.
حماية الخصوصية في صلب النقاش
وفي ظل المخاوف المرتبطة بالخصوصية، يحذر الواسيني من إمكانية استخدام العملة الرقمية كأداة للرقابة على الأفراد، مطالبًا بضمانات قانونية واضحة تحمي حرية التصرف المالي.
ويشدد على ضرورة وجود قوانين لحماية المستخدمين، ومساءلة المنصات الرقمية عن أي خلل أمني أو تجاوز قانوني، إلى جانب حملات توعية موسعة لتعزيز الثقافة الرقمية.
خلاصة:
يشكّل مشروع “الدرهم الرقمي” تحولًا استراتيجيًا في النظام المالي المغربي، يستهدف تحديث البنية المالية، وتوسيع الشمول المالي، وتعزيز السيادة الرقمية. غير أن نجاحه يظل مرهونًا بتوافر إطار قانوني وتنظيمي متكامل، وضمان حماية البيانات وحقوق الأفراد، إلى جانب شراكات إقليمية ودولية فعالة تدعم تكامل المغرب في النظام المالي العالمي الجديد.