“المسلمون ونصرة قضايا الأمة”: تأصيل فقهي ومنهجي لواجب النصرة في زمن الأزمات

في ظل ما تمر به الأمة الإسلامية من أزمات متلاحقة، وصور متعددة من الظلم والاستضعاف التي تطال المسلمين في أنحاء متفرقة من العالم، تبرز الحاجة إلى تأصيل فقهي وفكري متوازن يرسم معالم الطريق نحو أداء واجب النصرة بعيدًا عن الاندفاع العاطفي والانفعال غير المنضبط.
وفي هذا السياق يأتي كتاب “المسلمون ونصرة قضايا الأمة: أحكام وضوابط” للدكتور سالم عبد السلام الشيخي، الصادر عن دار طيبة بالتعاون مع مركز البصيرة للبحوث والتدريب والترجمة، ليشكل إضافة نوعية للمكتبة الإسلامية المعاصرة. فالكتاب، الذي يقع في 380 صفحة موزعة على بابين وثلاثة فصول، يمثل معالجة علمية رصينة لقضية محورية في واقع الأمة، تجمع بين التأصيل الشرعي والمنهجية الأكاديمية المحكمة.
بين الواجب الشرعي والضوابط العملية
يؤكد المؤلف منذ الصفحات الأولى أن النصرة ليست رد فعل عاطفيًا، بل واجب شرعي يتطلب فقهًا دقيقًا وبصيرة نافذة. وينطلق في كتابه من مقولة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: “من عمل في غير علم، كان ما يفسد أكثر مما يصلح”. ويقدّم المؤلف رؤية شاملة لمفهوم النصرة، تسعى إلى تأسيس وعي جمعي يقوم على العلم الراسخ، لا مجرد الحماسة العابرة.
الباب الأول: التأصيل المفاهيمي والفقهي
جاء الباب الأول بعنوان “الجانب التأصيلي المفاهيمي لفقه النصرة”، وخصصه المؤلف لتحديد المفاهيم المركزية وتحليل المصطلحات المتعلقة بالنصرة، مثل “القضية” و”الأزمة” و”المشكلة”، مرجّحًا استخدام مصطلح “قضية” لدلالته الأشمل على مظالم المسلمين في الداخل والخارج، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو إنسانية.
كما تناول أبرز القضايا المعاصرة التي تواجه المسلمين مثل فلسطين، وكشمير، وبورما، والمسلمون في الصين، وبيّن أنها ليست أزمات عابرة بل مظالم ممنهجة تتطلب مواقف شرعية واضحة.
وفي الفصول التالية، تناول المؤلف التأصيل الشرعي لمفهوم النصرة، معرفًا إياها بأنها: “إعانة المسلمين المظلومين على الوصول إلى حقوقهم، ودفع الأذى عنهم، مع بذل الجهد لتفريج كربهم ومواساتهم”. وميز بين النصرة والمعونة، والنصرة المشروعة والتعدي المحرم، مؤكدًا أن النصرة لا تبرر تجاوز الحدود الشرعية.
كما ناقش الضوابط والأحكام الفقهية للنصرة، مبينًا الفروق بين القواعد الفقهية والضوابط المنهجية، وأفرد حيزًا مهمًا للحديث عن دوافع النصرة المستمدة من نصوص الوحي، وأثرها في تعزيز الأخوّة الإسلامية وتحقيق الولاء والتكافل بين المسلمين.
نقد للغلو والتجاوز.. وتنظير للمسؤولية الشرعية
خصص المؤلف فصلاً للحديث عن المسؤولية الشرعية المترتبة على الامتناع عن النصرة، محذرًا من خطورة التخاذل، ومميزًا بين “الجريمة الإيجابية” و”الجريمة السلبية”، حين يكون الصمت عن الظلم بمثابة مشاركة ضمنية فيه.
وفي مبحث مستقل، رد على مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”، رافضًا تبرير الوسائل المحرمة بحجة نصرة المظلومين، ومؤكدًا أن الوسائل جزء من المنهج الشرعي، لا تنفصل عن الغايات. وأورد نصوصًا صريحة في تحريم الاعتداء على الأبرياء، محذرًا من تسويغ الإرهاب أو التفجيرات باسم “الجهاد” أو “الإنكار”.
كما تطرق إلى أسباب ضعف النصرة في الواقع الإسلامي، مثل الانهزام النفسي، والانشغال المادي، والجهل، والخوف من الأنظمة القمعية، وفقدان الثقة بالعمل الجماعي، داعيًا إلى مراجعة هذه الأسباب والعمل على معالجتها بوعي تربوي وعلمي.
الباب الثاني: الجانب التطبيقي ووسائل النصرة
في الباب الثاني المعنون بـ “وسائل النصرة”، يعرض الدكتور الشيخي مجموعة من الوسائل المشروعة لنصرة قضايا المسلمين، منها:
- الدعاء وقنوت النوازل
- الدعم المالي والإغاثي
- النصرة الإعلامية عبر نقل معاناة المسلمين والتعريف بقضاياهم
- النصرة السياسية والقانونية، ودور أهل الاختصاص في المحافل الدولية
ويحرص المؤلف على ضبط هذه الوسائل بالضوابط الشرعية، والتأكيد على أن النصرة لا تكون فاعلة ما لم تنطلق من رؤية واعية تلتزم بالشرع وتبتعد عن الغلوّ أو التساهل.
رؤية علمية متزنة.. ورسالة للمصلحين والدعاة
يمثل هذا الكتاب نموذجًا في الجمع بين التأصيل الفقهي والتحليل الواقعي والاستشراف الدعوي، وقد نجح الدكتور سالم الشيخي في تقديم سردية علمية متماسكة حول فقه النصرة، تصلح لأن تكون مرجعًا في الجامعات والمعاهد الشرعية، ومرشدًا للدعاة والمصلحين، وكل من يحمل هم الأمة.
فهو كتاب يخاطب العقل والوجدان معًا، يعمق الفهم لقضايا المسلمين ويؤطر السلوك الإسلامي في ميادين النصرة والتضامن، على أسس من العدل، والرحمة، والانضباط الشرعي.
ولا شك أن هذا العمل العلمي يمثل إضافة معتبرة في حقل الدراسات الإسلامية المعاصرة، ويستحق أن يُقرأ بتمعّن، ويُدرّس في المؤسسات العلمية، ويُعتمد دليلاً لبناء خطاب إسلامي راشد، يعيد للأمة وعيها بدورها ومسؤوليتها تجاه المظلومين والمضطهدين في كل مكان.