العمارة في سوريا.. أداة سلطة ومعمار للإقصاء

على مرّ التاريخ، اشتهرت سوريا بتعددها الثقافي والديني، إذ شكّلت أرضًا للتعايش بين مختلف الطوائف والمذاهب، وبرز ذلك بوضوح في فضائها المعماري، حيث تجاورت المساجد والكنائس، وانسجمت الثقافات في نسيج اجتماعي جامع. ومع احتفاظ كل طائفة بخصوصيتها، ظل الإحساس بالانتماء عامًا وشاملًا، دون حواجز أو عزلة.
لكن هذا المشهد بدأ في التآكل تدريجيًا، مع ملامح أولى ظهرت في تخطيط المدن خلال الحقبة الاستعمارية، وتكثفت في ظل حكم نظام الأسد، منذ استلام حافظ الأسد السلطة وحتى سيطرة ابنه بشار، في فترة امتدت لأكثر من خمسين عامًا.
من التعايش إلى العزل
مع بروز توجهات عمرانية جديدة، أُعيد تصميم المدن السورية بطريقة ضربت الانسجام المجتمعي، وأعادت إنتاج الفضاءات على أسس طبقية وطائفية. تحولت العمارة من رمز للتعايش إلى وسيلة للإقصاء، واختفت روح المكان التي كانت تعكس المشاركة والوجود الجمعي.
أصبح العمران في سوريا، لا سيما في عهود الأسد، أداة لتعميق الانقسام، بما يعكس رؤية السلطة في السيطرة على السكان، لا فقط من خلال العسكر، بل أيضًا عبر التخطيط والخرسانة. بُنيت الأبنية الضخمة لا لتخدم المجتمع، بل لتبث الهيبة والخوف، وتُكرّس السلطة كقوة حاضرة دائمًا، حتى وإن كانت غير مرئية.
قصر قاسيون.. مراقبة من القمة
من أبرز رموز هذا التوجه، القصر الرئاسي المشيّد على قمة جبل قاسيون، المطل على دمشق. شكّل موقع القصر تجسيدًا لفكرة “البانوبتيكون” كما وصفها ميشيل فوكو؛ حيث يُراقب الجميع من برج مركزي، بينما لا يدري أحد ما إذا كان الحارس موجودًا فعلًا. هكذا استقرت هيبة السلطة في الأذهان، وصارت المراقبة إحساسًا دائمًا، لا مجرد فعل مادي.
تخطيط المدن.. من الاحتواء إلى الحصار
امتد هذا النهج إلى تخطيط المدن بأكملها؛ حيث فُصلت المناطق السكنية عن المراكز القديمة، وأُحاطت بها الأبراج كمواقع مراقبة. أُعيد توزيع السكان وفق معايير أمنية واقتصادية، وظهرت المناطق العشوائية كحل لمشكلة النزوح، لكنها خُطّطت بما يضمن السيطرة عليها، لا دمجها في نسيج المدينة.
النتيجة: فضاءات خالية من الحياة العامة، وساحات مفرغة من التفاعل، وطرق وشوارع لا تقود إلى تواصل، بل إلى تقسيم.
عسكرة العمارة وتجريد الإنسان
عكست المباني العامة طموحات النظام في فرض الهيمنة. فقد كشفت دراسة لجامعة دمشق عام 2015 أن الواجهات المعمارية أُنشئت بمعايير ضخمة تعزل الإنسان، وتُضخّم السلطة. لم تكن تلك الضخامة عبثية؛ بل وسيلة لتعزيز سيطرة الدولة وتهميش الفرد، في مظهر آخر لما يُعرف بـ”عمارة الأنظمة الشمولية”.
حمص.. من الحلم إلى الكابوس
كانت حمص مثالًا صارخًا على دور التخطيط العمراني في تفكيك المجتمعات. تاريخيًا، كانت المدينة ملتقى طبقات وفئات متباينة، لكن مشاريع “التطوير” منذ الثمانينيات قضت على هذا التنوع. تحت ستار التحديث، جرى تفكيك أحياء كاملة، وتحويل المساحات الخضراء إلى أبراج وإسمنت، وعُزل السكان، وأُعيد ترتيبهم وفق انتماءاتهم، لا احتياجاتهم.
ما عُرف لاحقًا بمشروع “حلم حمص” صار في الواقع “كابوس حمص”، إذ زاد الشرخ بين فئات المجتمع، ومهّد فعليًا لانفجار الثورة، ثم الحرب.
عشوائيات مُسيّسة ومراقَبة
شكلت العشوائيات نقطة التقاء بين السلطة والاحتياج الشعبي. إذ انتشرت أحياء كاملة خارج الإطار القانوني، لكنها لم تكن عشوائية تمامًا؛ فبعضها مثل حي المزة 86 أُنشئ لعناصر موالية من سرايا الدفاع، وغُضّ الطرف عن مخالفاتها، بينما تُركت أحياء أخرى مثل القابون وداريا تتوسع دون خدمات، لتبقى في هامش المدينة والسياسة.
وهكذا، استُخدمت العشوائيات كأداة للهيمنة؛ تارة لتأمين ولاء، وتارة كأرض محتملة للصراع، يسهل محاصرتها وقصفها لاحقًا.
الثورة.. حين ثار الهامش
ما إن انطلقت شرارة الثورة عام 2011، حتى كانت الأحياء المهمشة أول من لبّى النداء؛ فالعشوائيات التي عاشت الإقصاء كانت بطبيعتها ملاذًا للمطالبين بالتغيير. شوارعها الضيقة وبنيتها الفوضوية منحت الثوار غطاءً، فيما شكّلت طبيعتها الاجتماعية بيئة خصبة للتمرد.
وفي المقابل، اتخذ النظام الأحياء الموالية له منطلقًا لقمع هذه المناطق، وعمد إلى قصفها وتجويعها، وأطلق يد الميلشيات في إعادة “هندستها” ديمغرافيًا.
الهدم.. سياسة من نوع آخر
لم تكن الأبنية أهدافًا عسكرية بقدر ما كانت رسائل للردع. في القابون مثلًا، دُمّر أكثر من ألفي منزل ومتجر عام 2013، ضمن سياسة تهدف إلى محو الحواضن الثورية، وتغيير تركيبتها السكانية. هذا ما وصفته المعمارية الأميركية آدا هوكستابل بـ”الأوروبيسايد”: حين يُستخدم التخطيط العمراني لتصفية مجتمعات بأكملها تحت غطاء التحديث.
إعادة الإعمار.. عنوان للإقصاء
منذ 2017، تحوّلت “إعادة الإعمار” إلى أداة لإعادة إنتاج السلطة، لا المدن. لم يُسمح للمهجرين السنة بالعودة، في حين نُفذت مشاريع البنية التحتية في مناطق ذات أغلبية مسيحية أو موالية. وبدلًا من العدالة، استُخدم الإعمار لتكريس الانقسام وإعادة رسم الخريطة الديمغرافية على مقاس النظام.
بين التماثيل والخراب
وفي مفارقة صارخة، نُصبت تماثيل حافظ الأسد وسط الخراب، كما حدث في خان شيخون، بعد سنوات من المجازر. بدت التماثيل كأنها مراكز أمنية صامتة، تحرس الذكرى، وتمنع النسيان. ولم تكن العودة إلى الوطن إلا مشروطة بالطاعة والولاء.
الخاتمة: العمارة كسلاح
في نهاية المطاف، لم تكن الحرب في سوريا مجرد صراع على السلطة، بل كانت صراعًا على المدينة ذاتها؛ على شكلها ونسيجها وناسها. اختار النظام أن يحكم المدن بالعمران، وأن يُخضع الحجر والبشر معًا، فجعل من العمارة وسيلة للهيمنة، ومن التخطيط أداةً لإقصاء ملايين السوريين، لا لمجرد إعمار وطنهم.
وإن كانت الثورة قد أسقطت رموز السلطة السياسية، فإن آثار تلك العمارة التي قُدّت بالاستبداد لا تزال قائمة، تحجب عودة أكثر من 6 ملايين لاجئ، وتُبقي على مدن نصفها رماد، ونصفها صمت.