الأخبار الدولية

العلاقات الصينية-الإسرائيلية: تطور تاريخي وتحولات استراتيجية

أرست الصين وإسرائيل علاقاتهما الدبلوماسية الرسمية عام 1992، بعد عقود من التحفظ الصيني تجاه الانفتاح على تل أبيب. ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين، شهدت العلاقات بين البلدين تطورًا ملحوظًا شمل الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والأكاديمية، إضافة إلى مجالات التكنولوجيا والابتكار.

تتمحور العلاقة الثنائية في الأساس حول المصالح الاقتصادية، حيث طوّر الطرفان روابط متينة في التجارة والمشاريع الاستثمارية، حتى أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لإسرائيل في آسيا، والثاني عالميًا بعد الولايات المتحدة. غير أن هذه العلاقات شهدت تراجعًا منذ عام 2019 تحت وطأة الضغوط الأميركية على إسرائيل للحد من تعاونها الاقتصادي مع الصين، فضلًا عن تحذيرات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من توسع نفوذ الشركات الصينية في قطاعات البنية التحتية الحيوية والتكنولوجيا المتقدمة، خشية استغلالها في أنشطة تجسس تهدد الأمن القومي.

على الصعيد السياسي، أدت الخلافات إلى توتر العلاقات، لاسيما الموقف الصيني المؤيد للحقوق الفلسطينية، ودعوة بكين لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة بعد العدوان الإسرائيلي المتصاعد منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهو ما قوبل برد إسرائيلي شجب فيه انتهاكات الصين لحقوق المسلمين في إقليم شينغيانغ.

العلاقات التاريخية

اعترفت إسرائيل رسميًا بجمهورية الصين الشعبية عام 1950، لتصبح من بين أولى دول العالم، وأول دولة في الشرق الأوسط تقوم بذلك. ومع ذلك، تبنت الصين موقفًا معارضًا لإسرائيل، داعمة الفلسطينيين، ورفضت منح التأشيرات للإسرائيليين إلا في حال امتلاكهم جنسية مزدوجة.

بعد الحرب الكورية (1950-1953)، التي انضمت فيها الصين إلى جانب الاتحاد السوفيتي ضد التحالف الأميركي، أعاقت الولايات المتحدة سعي إسرائيل لإقامة علاقات مع بكين. كما اتخذت الصين موقفًا عدائيًا تجاه إسرائيل باعتبارها صنيعة الإمبريالية الغربية، وفي منتصف ستينيات القرن العشرين فتحت منظمة التحرير الفلسطينية مكتبًا لها في الصين وحظيت بدعمها العسكري والمالي.

في السبعينيات، ساهم التقارب الأميركي الصيني ودعم إسرائيل للصين للحصول على عضوية الأمم المتحدة عام 1971، في بناء علاقات عسكرية سرية بين البلدين. ومع دخول الثمانينيات، خففت الصين قيود السفر على حاملي الجواز الإسرائيلي، بينما أعادت إسرائيل فتح قنصليتها في هونغ كونغ عام 1985، لتصبح نقطة رئيسية للتواصل بين البلدين. وفي تلك الفترة، نمت علاقات غير رسمية في مجالات الزراعة والسياحة والعلوم والاتصالات، مع تبادل لقاءات وزارية عبر أروقة الأمم المتحدة.

العلاقات الدبلوماسية الرسمية

بدأت العلاقات الدبلوماسية غير الرسمية بين الصين وإسرائيل عام 1990 عبر إنشاء مكاتب تمثيلية في تل أبيب وبكين. مثلت إسرائيل مصالحها من خلال مكتب الاتصال التابع للأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والإنسانيات، في حين مثّلت الصين مصالحها عبر أحد فروع هيئة السفر الدولية الصينية.

وخلال زيارة نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإسرائيلي السابق ديفيد ليفي إلى الصين في يناير 1992، أعلن الطرفان إقامة علاقات دبلوماسية رسمية. تلتها زيارات رسمية لكبار المسؤولين الإسرائيليين، شملت رئيس الوزراء إسحاق رابين عام 1994، والرئيس عزرا وايزمان عام 1999، ثم زيارة الرئيس الصيني السابق جيانغ تسه مين لإسرائيل عام 2000، لتشهد العلاقة نقلة نوعية.

استمرت تبادلات الزيارات الدبلوماسية خلال العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين، مع توقيع اتفاقيات تعاون متعددة في مجالات الزراعة والتجارة والتكنولوجيا والثقافة. حتى خلال توتر العلاقات بين حكومة بنيامين نتنياهو وإدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عام 2013، سعى نتنياهو لتعميق الروابط مع بكين، ووقع اتفاقية تجارية بقيمة 400 مليون دولار، قبل أن تعزز زيارة نتنياهو عام 2017 العلاقات الثنائية عبر توقيع 8 اتفاقيات شاملة للابتكار بين البلدين.

العلاقات الاقتصادية

بدأ التعاون الاقتصادي بين الصين وإسرائيل عام 1987 عبر تأسيس شركة “كوبيكو” الحكومية، التي هدفت إلى تطوير أنشطة تجارية بين الشركات الصينية والإسرائيلية، واستمرت التجربة حتى توقفها عام 1992. ومع مرور الوقت، نمت العلاقات الاقتصادية لتصبح الصين أكبر شريك لإسرائيل في آسيا وثاني أكبر شريك عالميًا بعد الولايات المتحدة.

ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين من 1.07 مليار دولار عام 2001 إلى ذروة بلغت 11.6 مليار دولار عام 2018، مع ميزة دائمة لصالح الصين. تشكل المكونات الإلكترونية عالية التقنية نحو 51% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية إلى الصين، إلى جانب أنظمة التحكم الصناعية، المواد الكيميائية، المعدات الطبية، والمعادن. وتشمل الواردات الصينية منتجات استهلاكية وصناعية، مثل المعدات الكهربائية والمركبات، إضافة إلى المنسوجات والملابس.

شهدت الاستثمارات الصينية في إسرائيل بين 2010 و2020 ازدهارًا، خاصة في قطاع التكنولوجيا المتقدمة والبنية التحتية الحيوية، ضمن مبادرة الحزام والطريق. وبلغت قيمة 449 صفقة تكنولوجية أكثر من 9 مليارات دولار، بينما استثمرت الصين في 8 مشاريع للبنية التحتية بحوالي 6 مليارات دولار، شملت خطوط سكة حديد وميناء حيفا.

مع تولي الرئيس الأميركي دونالد ترامب عام 2017، ضغطت واشنطن على إسرائيل للحد من استثماراتها مع الصين خوفًا من تسرب التكنولوجيا العسكرية. كما أدى وباء كورونا وأزمة التوتر الاقتصادي إلى خفض الصادرات الإسرائيلية، وإيقاف تصدير منتجات 480 شركة إسرائيلية إلى الصين منذ 2019، بنسبة 15% من إجمالي الشركات المصدرة.

وبعد العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2023، بلغ حجم التجارة بين البلدين 16.276 مليار دولار عام 2024، مع ارتفاع الواردات الصينية بنسبة 20% وانخفاض الصادرات الإسرائيلية، ما أدى إلى عجز تجاري تجاوز 10 مليارات دولار لأول مرة.

التعاون العسكري

بدأ التعاون العسكري بين البلدين عام 1979، عبر بعثة إسرائيلية سرية لعرض أسلحة وتكنولوجيا عسكرية، أسفر عن بيع الصين شحنات من قذائف الدبابات والصواريخ وأنظمة الرادار. وفي فترة الثمانينيات والتسعينيات، باعت إسرائيل للصين معدات عسكرية بقيمة 11.5 مليار دولار، بما في ذلك تكنولوجيا تحديث الطائرات والدبابات.

مع دخول القرن الحادي والعشرين، أصبحت إسرائيل ثاني أكبر مزود للأسلحة والتقنيات العسكرية للصين بعد روسيا. لكن الولايات المتحدة ضغطت على إسرائيل لإلغاء صفقات حساسة، مثل بيع نظام رادار الإنذار المبكر “فالكون” عام 2000، وصفقة صيانة طائرات “هاربي” دون طيار عام 2005، وفرضت قانون مراقبة الصادرات الإسرائيلي عام 2007، لتقييد مبيعات المعدات العسكرية للصين.

بعد ذلك، اقتصر التعاون الأمني على تدريبات الشرطة ومنتديات مكافحة الإرهاب.

التعاون الأكاديمي والبحثي

انطلق التعاون الأكاديمي قبل إقامة العلاقات الدبلوماسية الرسمية، مع افتتاح مكتب الاتصال للأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والإنسانيات في الصين عام 1990، لتطوير البحث والتدريب في مجالات الزراعة، الطب، البيئة، والطاقة البديلة.

شهدت العقود التالية اتفاقيات مشتركة للتعاون العلمي والتكنولوجي (1993 و2010)، وإطلاق برامج تبادل طلابي، ومنح بحثية قدمت أكثر من ألف منحة منذ 2012. كما أنشئت مراكز دراسات إسرائيلية في جامعات صينية مرموقة، مثل نانجينغ وهنان وشاندونغ، إلى جانب معاهد كونفوشيوس لتعليم لغة الماندرين في إسرائيل.

تم إنشاء عدة مراكز بحث مشتركة، شملت مجالات التكنولوجيا الحيوية والطاقة الشمسية والمياه والبيئة، مع تنفيذ حوالي 80 مشروعًا مشتركًا بين 1997 و2021 في مجالات المواد المتقدمة، الزراعة، الهندسة الطبية، المدن الذكية، ومكافحة تغير المناخ.

القضايا الخلافية

تظل قضايا رئيسية مصدر توتر، أبرزها دعم الصين للحقوق الفلسطينية، ورفضها السياسات الإسرائيلية مثل بناء المستوطنات والجدار العازل، والتدخلات العسكرية في الأراضي الفلسطينية. وقد أثارت مواقف الصين بعد الانتخابات الفلسطينية 2006 ومعركة طوفان الأقصى 2023 غضب إسرائيل، خاصة دعوة الصين لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات لغزة، بينما ردت إسرائيل بالمشاركة في إدانة انتهاكات حقوق مسلمي الإيغور.

كما يشكل التعاون العسكري الصيني مع إيران مصدر خلاف إضافي، حيث زودت الصين إيران بمعدات حربية ودعمت قطاعها العسكري، فيما تدعم إسرائيل جهود الهند العسكرية، ما يزيد من تعقيد العلاقة بين بكين وتل أبيب.

زر الذهاب إلى الأعلى