العقوبات الثانوية.. سلاح أميركي يعيد تشكيل النظام العالمي

في عالم لم تعد الحروب تُخاض بالمدافع وحدها، تحوّلت العقوبات الاقتصادية إلى أداة مركزية في معارك النفوذ الجيوسياسي. وفي طليعة هذه الأدوات، تبرز العقوبات الثانوية، التي لا تكتفي باستهداف الخصم المباشر، بل تمتد لتشمل كل من يتعاون معه، لترسل الولايات المتحدة رسالة صريحة للعالم: “من لا يصطفّ معنا، فهو ضدنا.”
وفي يوليو/تموز 2025، هددت واشنطن بفرض عقوبات ثانوية على أي طرف يستمر في التعاون مع روسيا، في محاولة لخنق اقتصادها وعزلها عن النظام المالي العالمي عبر استهداف شبكاتها العابرة للحدود.
لكن هذه الاستراتيجية تثير جدلًا واسعًا؛ إذ يرى محللون أن الإفراط في استخدامها قد يُزعزع الثقة بالنظام الاقتصادي الدولي، ويثير تساؤلات جوهرية: من يملك الحق في معاقبة من؟ وبأي شرعية دولية؟ وهل تستطيع واشنطن، المثقلة بدين داخلي متصاعد وصراعات سياسية داخلية، تحمّل ارتدادات هذا السلاح الذي قد يطالها قبل خصومها؟
فهم العقوبات الثانوية: المفهوم والتميّز
لفهم طبيعة العقوبات الثانوية، لا بد من التمييز بينها وبين العقوبات المباشرة:
- العقوبات المباشرة: تُفرض على دولة أو كيان محدد، وتستهدف منع التعامل معه عبر حظر تجاري، أو تجميد أصول، أو حظر مالي. وتصدر عادة عن دولة أو تحالف دولي.
- العقوبات الثانوية: تطال أطرافًا ثالثة تتعامل مع الجهة المعاقَبة، حتى وإن لم تقترف أي انتهاك مباشر. وهي أداة ردع لتجفيف أي دعم غير مباشر للخصم، كما حدث في عام 2018 عندما فرضت واشنطن عقوبات على بنك صيني بسبب علاقاته المالية مع كوريا الشمالية.
لماذا تنفرد الولايات المتحدة بفرضها؟
تستمد واشنطن قدرتها على فرض العقوبات من هيمنة مركبة:
- الهيمنة المالية:
- الدولار يُستخدم في أكثر من 85% من المعاملات العالمية.
- يمثل نحو 59% من احتياطي العملات الأجنبية في البنوك المركزية.
- تتحكم عمليًا بشبكة “سويفت”، وهي شريان التحويلات المالية الدولية، التي تخدم أكثر من 11 ألف مؤسسة مالية.
- الهيمنة التكنولوجية:
- شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى مثل غوغل، مايكروسوفت، آبل، أمازون تسيطر على البنية الرقمية العالمية.
- النفوذ العسكري والسياسي:
- تتواجد القوات الأميركية في أكثر من 70 دولة.
- تمتلك ثقلًا داخل مؤسسات دولية كـ مجلس الأمن، صندوق النقد، البنك الدولي.
العقوبات الأميركية ضد روسيا في 2025: نهج تصعيدي
أعلنت إدارة الرئيس دونالد ترامب في يوليو/تموز 2025 عن مهلة مدتها 50 يومًا للتوصل إلى اتفاق سلام، مهددة بفرض رسوم تصل إلى 100% على الدول المستوردة للنفط الروسي.
بالتوازي، يناقش الكونغرس قانونًا يفرض رسومًا تصل إلى 500% على صادرات روسيا، إضافة إلى عقوبات ثانوية تطال الشركات الممولة ووسائل النقل.
ورغم أن الإجراءات لم تُفعّل بعد، فإن الغموض بشأن توقيت تنفيذها يُربك الأسواق ويزيد من حالة عدم اليقين الاقتصادي.
هل يمكن فعلاً عزل موسكو؟ تشابكات اقتصادية معقّدة
تشكّل روسيا محورًا حيويًا في التجارة العالمية، مما يجعل عزلها تحديًا غير سهل:
1. قطاع الطاقة:
- تُصدر روسيا أكثر من 7 ملايين برميل يوميًا.
- عائداتها النفطية في 2024 بلغت 192 مليار دولار.
- الصين، الهند، تركيا، البرازيل من كبار المشترين للنفط الروسي.
2. الأسمدة والمنتجات الزراعية:
- ثالث أكبر مصدر للأسمدة، والأول عالميًا في تصدير القمح.
- أوروبا تستورد نحو 5.5 ملايين طن من الأسمدة الروسية سنويًا.
3. المعادن الإستراتيجية:
- روسيا من كبار موردي النيكل، الألمنيوم، التيتانيوم، وهي مواد أساسية في الصناعات الثقيلة.
4. الطاقة النووية والفضاء:
- تسيطر عبر “روس آتوم” على 46% من تخصيب اليورانيوم عالميًا.
- تعاونها الفضائي مستمر مع دول متعددة، رغم العقوبات.
كل هذه الروابط تجعل أي عقوبات ثانوية على شركاء روسيا مغامرة مكلفة قد تنعكس سلبًا حتى على حلفاء واشنطن.
كيف سيتأثر العالم؟
● التأثير الاقتصادي:
- ارتفاع أسعار الطاقة: اضطراب في الإمدادات سيغذي التضخم.
- فوضى في سلاسل الإمداد: بسبب نقص الحبوب، الأسمدة، والمعادن.
- ردود فعل انتقامية: قد ترد دول كـ الصين والهند عبر قيود تجارية.
● التأثير الجيوسياسي:
- تصاعد التوتر مع الحلفاء: كما أظهرت الهند في يونيو 2025 عندما أعلنت مواصلة شراء النفط الروسي.
- تعزيز التكتلات البديلة: مثل “بريكس بلس” و”منظمة شنغهاي”.
- تآكل شرعية النظام الدولي: العقوبات خارج مظلة الأمم المتحدة تزيد من الشكوك حول الحياد والعدالة الدولية.
الارتداد الأميركي.. هل تتحمّل واشنطن نتائج سلاحها؟
فرض العقوبات لا يخلو من تكاليف داخلية:
- ضغط على الشركات الأميركية المرتبطة بشركاء روسيا.
- تراجع الدعم الدولي نتيجة تضرّر الحلفاء.
- تصاعد الاعتراضات الداخلية من الكونغرس وقطاع الأعمال.
- حالة ارتباك استثماري بسبب الغموض التنظيمي.
ومع دين عام تجاوز 37 تريليون دولار، وخلافات حول السياسات النقدية، تبدو قدرة الولايات المتحدة على امتصاص الصدمات محدودة، لا سيما إذا تحولت الأزمة العالمية إلى تضخم داخلي يرهق المواطن الأميركي.
نحو نظام عالمي جديد؟
العقوبات الأميركية، رغم تأثيرها، تسهم في تسريع تفكك النظام المالي القديم:
- اتجاه دول كبرى نحو التحرر من الدولار و”سويفت”.
- تعزيز علاقات اقتصادية بديلة لا تمر عبر واشنطن.
- تراجع نفوذ المؤسسات الدولية المرتبطة بالغرب.
وبينما تسعى واشنطن للحفاظ على مركزها العالمي، قد تجد نفسها تدفع ثمن الانفراد بالقرار، لتواجه عزلة من صنع يديها في نظام دولي لم يعد يحتمل هيمنة قطب واحد.