الصحة

الطب الدقيق.. ثورة في علاج السرطان وتخصيص الرعاية لكل مريض

يشكّل السرطان أحد أعقد التحديات الطبية في العصر الحديث، ليس فقط لتعدد أنواعه، بل أيضاً لاختلاف استجابة المرضى للعلاجات التقليدية. ووفقاً لإحصاءات منظمة الصحة العالمية، سُجّل في عام 2022 نحو 20 مليون إصابة جديدة، فيما بلغت الوفيات حوالي 9.7 ملايين حالة، ليبقى المرض من أبرز أسباب الوفاة عالمياً. وتشير التقديرات إلى أن واحداً من كل تسعة أشخاص سيصاب بالسرطان خلال حياته، مع توقعات بارتفاع الإصابات السنوية إلى أكثر من 35 مليون حالة بحلول 2050، بزيادة تصل إلى 77% مقارنة بعام 2022.

ورغم التقدم الكبير في الجراحة والعلاج الكيميائي والإشعاعي خلال العقود الأخيرة، ظلّ نموذج “علاج واحد لجميع المرضى” قاصراً عن تلبية الاحتياجات الفردية، إذ قد يستفيد مريض من علاج معين بينما يضر آخرين يعانون من النوع ذاته من السرطان.

الطب الدقيق: مفهوم يغيّر قواعد اللعبة

جاء الطب الدقيق أو الطب الشخصي (Precision Medicine) كنهج جديد يقوم على تصميم العلاج بما يتناسب مع الخصائص الفردية لكل مريض، آخذاً في الاعتبار العوامل الجينية والبيئية ونمط الحياة. بدلاً من الاعتماد فقط على نوع السرطان، يُحلَّل الورم على مستوى أعمق لمعرفة الطفرات الجينية وتحديد الأدوية التي تستهدفها بدقة.

يمكن تشبيه الفكرة بمفتاح خاص يُصمم لكل مريض، على عكس المفتاح الواحد الذي يحاول فتح جميع الأقفال كما هو الحال في العلاجات التقليدية. ويُعتمد في ذلك على تقنيات مثل: الفحوص الجينية والجزيئية، التنميط الجينومي، تسلسل الجيل التالي، واختبارات المؤشرات الحيوية، إضافة إلى استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لتقدير شراسة الورم وسرعة نموه.

كيف غيّر الطب الدقيق علاج السرطان؟

أحدث الطب الدقيق نقلة نوعية في التعامل مع أمراض مثل سرطان الثدي، الرئة، القولون والمستقيم، المبيض، الجلد، الدم، وأورام الغدد. ومن أبرز استراتيجياته:

  • العلاج الموجه (Targeted Therapy): يهاجم تغيرات جينية محددة في الخلايا السرطانية دون التأثير على الخلايا السليمة.
  • العلاج المناعي المخصص (Immunotherapy): يحفز جهاز المناعة للتعرف على الخلايا السرطانية ومهاجمتها، وأحياناً يُعدَّل وراثياً لتعزيز فعاليته.

على سبيل المثال، بعض أورام الثدي تحتوي على مستويات مرتفعة من بروتين HER2، مما يجعلها أكثر عدوانية. وفي هذه الحالة يمكن استهدافه بأدوية دقيقة مثل تراستوزوماب (Trastuzumab)، وهو علاج يُستخدم فقط للمريضات اللواتي تكشف الفحوص وجود هذا البروتين.

دور الذكاء الاصطناعي والطب الرقمي

يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً محورياً في الطب الدقيق، بدءاً من التشخيص والكشف المبكر وصولاً إلى اختيار العلاج الأمثل. إذ تساعد الخوارزميات على تحليل صور الأشعة، التنبؤ بانتشار السرطان، تصميم جرعات دوائية دقيقة، وحتى تطوير أنظمة ذكية لتوصيل الأدوية استناداً إلى المؤشرات الحيوية للمريض.

التكلفة والتحديات

رغم الآمال الكبيرة، يواجه الطب الدقيق عقبات عدة:

  • التكاليف المرتفعة: الاختبارات الجينية والعلاجات الموجهة باهظة الثمن، وقد لا يغطيها التأمين الصحي.
  • الحاجة إلى بنية تحتية متقدمة: مختبرات متخصصة وفرق طبية مدرّبة لتحليل البيانات.
  • قضايا الخصوصية: حساسية المعلومات الجينية تتطلب سياسات صارمة لحمايتها.
  • عدم تكافؤ الوصول عالمياً: الطب الدقيق متاح أكثر في الدول المتقدمة، مما يحد من استفادة المرضى في البلدان ذات الموارد المحدودة.

مستقبل الطب الدقيق

لم يعد الطب الدقيق مجرد فكرة مستقبلية، بل أصبح واقعاً يغيّر حياة المرضى. ومع تسارع التقدم العلمي، يتجه العالم نحو قاعدة جديدة في الرعاية الصحية: “العلاج المناسب، للمريض المناسب، في الوقت المناسب”. ومع دمج الذكاء الاصطناعي والابتكارات الجينية، يُتوقع تطوير لقاحات شخصية ضد السرطان وخطط علاجية فريدة لكل مريض، بل وربما توسيع نطاق تطبيقاته لعلاج أمراض أخرى مستقبلاً.

ورغم أنه لا يَعِد بالشفاء الكامل للجميع بعد، فإن الطب الدقيق يفتح الباب لعصر جديد من العلاجات الأكثر إنسانية وفعالية، حيث يُنظر إلى كل مريض باعتباره حالة فريدة تستحق خطة علاجية مصممة خصيصاً له.

زر الذهاب إلى الأعلى