الصين تقلب موازين صناعة السيارات العالمية.. ومعرض ميونيخ يتحول إلى ساحة صراع غير متكافئ

تحوّل المعرض الدولي للسيارات في ميونيخ هذا العام إلى ساحة مواجهة غير متكافئة بين عمالقة الصناعة الألمانية من جهة، والوافدين الصينيين الذين يعيدون رسم خريطة المنافسة العالمية في مجال السيارات من جهة أخرى.
فعلى الرغم من العروض الفاخرة لشركات مثل بي إم دبليو التي كشفت عن سيارتها الكهربائية الجديدة iX3 أمام دار الأوبرا، ومرسيدس-بنز التي أنشأت جناحًا أنيقًا على شكل شبكة تهوية لعرض نسختها المطورة من GLC، فإن القاعات الرئيسية في ضواحي ميونيخ كانت تعج بأسماء صينية صاعدة مثل بي واي دي (BYD) وإكس بنغ (XPeng) وشانغآن ودونغ فنغ، حيث قدمت هذه الشركات سيارات كهربائية متطورة بأسعار تقل كثيرًا عن نظيراتها الغربية.
الصين تغيّر قواعد اللعبة
ووفقًا لتقرير صادر عن مجلة إيكونوميست، فإن هذا المشهد يعكس بوضوح كيف قلبت الصين موازين المنافسة، إذ بينما تتجه شركاتها إلى غزو الأسواق الأوروبية عبر التصدير والتوسع الخارجي، تشهد الساحة المحلية حرب أسعار شرسة ناجمة عن فائض إنتاج هائل يفوق احتياجات السوق الداخلية.
حرب أسعار خانقة وأرباح متراجعة
تضم الصين اليوم نحو 130 شركة سيارات محلية قادرة نظريًا على إنتاج ضعف حجم الطلب المحلي، ما أدى إلى انخفاض حاد في الأسعار. فقد تراجع متوسط سعر السيارة بنسبة 19% خلال عامين ليصل إلى نحو 165 ألف يوان (23 ألف دولار)، مع تخفيضات وصلت إلى 35% في بعض الطرازات.
ورغم أن المبيعات واصلت النمو بنسبة 7% هذا العام لتبلغ 24 مليون مركبة، فإن الأرباح شهدت تراجعًا حادًا.
وبيّنت بيانات المكتب الوطني للإحصاءات أن صافي أرباح قطاع السيارات – بما في ذلك الشركات الأجنبية – انخفض بنسبة 12% في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025، ليبلغ حوالي 178 مليار يوان (24.4 مليار دولار).
حتى الشركات الكبرى لم تسلم من التداعيات؛ فقد سجلت جيلي انخفاضًا في أرباحها بنسبة 14% خلال النصف الأول من العام، فيما أعلنت بي واي دي عن تراجع أرباحها الفصلية بنسبة 30% رغم ارتفاع إيراداتها بـ14%.
الأجانب يفقدون هيمنتهم في السوق الصينية
الشركات الأجنبية التي كانت تهيمن على السوق الصينية تواجه اليوم انهيارًا حادًا. فبحسب جمعية مصنّعي السيارات الصينية، ارتفعت حصة العلامات المحلية من 34% عام 2020 إلى حوالي 69% في الأشهر الأربعة الأولى من 2025.
ويقول الخبير الاقتصادي باتريك هومل من بنك يو بي إس:
“الشركات الغربية لا يمكنها ببساطة مجاراة حرب الأسعار التي يقودها المصنعون المحليون في الصين”.
أما الأرقام التي نشرتها إيكونوميست، فتؤكد تراجع حصة فولكسفاغن وتويوتا وهوندا وجنرال موتورز بشكل مستمر، بينما تواجه نيسان انهيارًا شبه كامل، في حين تحاول تويوتا التماسك لكنها تخسر تدريجيًا أمام التفوق المحلي.
محاولات حكومية لاحتواء الأزمة
دفعت موجة الخصومات المتصاعدة السلطات الصينية إلى التدخل؛ ففي مايو/أيار الماضي، أثارت بي واي دي جولة جديدة من التخفيضات، وصفتها وسائل الإعلام الرسمية بأنها “تنافس مدمر”.
وفي يونيو/حزيران، استدعت الحكومة كبار المصنعين إلى بكين وألزمتهم بوقف التخفيضات المفرطة وتسريع سداد المستحقات للموردين خلال 60 يومًا. لكن رغم ذلك، استمرت الخصومات بأساليب غير مباشرة، مثل التأمين المجاني والتمويل بفائدة صفرية وشحن الكهرباء مجانًا.
التوسع نحو أوروبا والمنافسة العالمية
وبسبب ضراوة المنافسة في الداخل، تتجه الشركات الصينية بقوة إلى الأسواق الخارجية بحثًا عن هوامش ربح أعلى. فبين عامي 2021 و2024، ارتفعت صادرات السيارات الصينية أربعة أضعاف، لتتجاوز اليابان وتصبح أكبر مُصدّر سيارات في العالم.
وفي النصف الأول من عام 2025 وحده، بلغت الصادرات 3.5 ملايين سيارة بزيادة 18% عن العام السابق. ورغم الرسوم الأوروبية المرتفعة المفروضة منذ 2024، ارتفعت حصة السيارات الصينية في أوروبا الغربية إلى 5.2% مقارنة بـ3.1% العام الماضي، وفق بيانات مؤسسة شميدت أوتوموتيف ريسيرتش.
ويرى مراقبون أن الشركات الصينية، التي تمرست في مواجهة المنافسة الشرسة داخليًا، أصبحت أكثر مرونة وقدرة على التكيّف مع العقبات الجمركية الأوروبية.
ملامح المستقبل.. الأقوياء يزدادون قوة
تتوقع إيكونوميست أن يشهد قطاع السيارات العالمي مزيدًا من الاضطراب وإعادة الهيكلة خلال السنوات المقبلة، فالشركات الضعيفة في الصين لن تختفي سريعًا بفعل الدعم الحكومي والحماية السياسية، لكن الحرب السعرية المستمرة ستزيد الأقوياء قوة.
ويبدو أن شركات مثل بي واي دي وشيري وجيلي، إلى جانب اللاعبين الجدد مثل إكس بنغ ولي أوتو، تمتلك المقومات اللازمة للصمود والتوسع. كما انضمت هواوي وشاومي إلى السباق، ما يزيد من الضغط على المنافسين الغربيين.
وتختتم المجلة تقريرها بالتأكيد على أن حرب الأسعار المستعرة ستجعل الشركات الصينية أكثر رشاقة وابتكارًا، وتمنحها فرصة لترسيخ مكانتها كقوة مهيمنة في صناعة السيارات العالمية، في وقت يجد فيه المصنعون الغربيون أنفسهم في موقع دفاعي متراجع أمام الزحف الصيني المتسارع.