السودان على حافة الهاوية: مناورة البرهان عالية المخاطر بين الشرق والغرب

تخيل بلداً يقف على جرفٍ آيلٍ للانهيار، تدفعه حرب ضارية نحو الهاوية، وجيشاً يقاتل على جبهات متعددة، واقتصاداً يتآكل طبقة بعد أخرى، بينما تتنازع قوى عالمية على أرضه وموانئه وذهبه وموقعه الجيوسياسي الفريد.
في قلب هذا المشهد يقف رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، محاولاً السير على حبلٍ مشدود: يرسل إشارات انفتاح إلى الغرب، وفي الوقت ذاته يحافظ على خيوط التواصل والارتباط مع الشرق الصاعد.
هذا السلوك ليس تقلباً سياسياً ولا انتقالاً عشوائياً بين المحاور، بل مناورة وجودية فرضتها الجغرافيا القاسية، وحرب أنهكت الدولة والمجتمع، وتوازنات دولية جعلت من السودان ساحة اختبار كبرى في صراع النفوذ على البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
في هذا السياق جاءت رسالة البرهان الأخيرة إلى الغرب عبر مقاله الذي اختار له بعناية صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية بتاريخ 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2025؛ مقال لم يكن رأياً عابراً، بل مذكرة سياسية مشفّرة، صيغت بدقة لتصل مباشرة إلى دوائر صناعة القرار.
فالانحياز إلى الشرق يعني سلاحاً متاحاً، لكنه يفضي إلى عزلة مالية خانقة، بينما الانحياز إلى الغرب يعني دعماً اقتصادياً محتملاً، لكنه يهدد بفقدان الإسناد العسكري وخطر الانفجار الداخلي. وهكذا يصبح الاصطفاف الكامل خياراً قاتلاً.
الرسالة السياسية والصفقة غير المعلنة
في مقاله المثير، حمّل البرهان مليشيا الدعم السريع مسؤولية الحرب، رافضاً توصيف الصراع بأنه «حرب جنرالين»، ومؤكداً أنها تمرد مسلح على الدولة.
غير أنه لم يكتفِ بذلك، بل بنى المقال بأكمله على فكرة جوهرية واحدة: إذا ساعدتموني على تفكيك مليشيا الدعم السريع وإنهاء التمرد، فسأكون مستعداً للمضي في مسار التطبيع، وتقديم صيغة حكم مدني تلبي تطلعاتكم.
لوّح البرهان بالانتقال الديمقراطي، وحذّر الغرب من أن استمرار الصراع يهدد مصالحه في البحر الأحمر، وفتح الباب أمام شراكات اقتصادية واسعة، مشيراً إلى دور محتمل للشركات الأميركية في إعادة الإعمار. بدا المقال أقرب إلى عرض تفاوضي متكامل الأركان: دعم عسكري وسياسي مقابل شرعية واستقرار وتعاون أمني.
وجاءت هذه الرسالة منسجمة مع تحركات أوسع للبرهان على الساحة الدولية، شملت خطابات في الأمم المتحدة، وإشارات إيجابية في الملفات الإنسانية، وانفتاحاً محسوباً على المؤسسات الغربية.
لكن هذه الخطوات لا تعني انقلاباً إستراتيجياً نحو الغرب، بقدر ما تعكس محاولة دقيقة لإدارة التوازن بين المكاسب الآنية ومخاطر الاصطفاف الحاد.
القيمة الجيوسياسية وكلفة الاصطفاف
يحتل السودان موقعاً إستراتيجياً بالغ الأهمية؛ فهو بوابة البحر الأحمر، وممر للتجارة العالمية، وخزان ضخم للثروات المعدنية والأراضي الزراعية. ولهذا تحتدم المنافسة الدولية عليه كما لم يحدث من قبل.
ترى الصين في السودان امتداداً لطريقها التجاري نحو أفريقيا. واستثماراتها الكبيرة في الموانئ والبنية التحتية والزراعة تدفعها إلى تجنب أي انهيار شامل قد يبدد مصالحها. وبأسلوبها الهادئ المعتاد، تتحرك بكين بدقة: دعم محدود للجيش، وضغط خلف الكواليس لتحقيق الاستقرار دون صدام مباشر مع الغرب.
أما روسيا، فقد استعادت أدواتها غير النظامية عبر «أفريكا كوربس»، البديل الجديد لفاغنر، بهدف ترسيخ وجود إستراتيجي دائم على البحر الأحمر. وبالنسبة لموسكو، لا يُعد السودان مجرد شريك، بل مفتاحاً للتغلغل في القرن الأفريقي وموازنة الضغوط الغربية في أوكرانيا وأوروبا.
في المقابل، يراقب الغرب تمدد الشرق بقلق متزايد، لكنه يتمسك بشرط ثابت: لا دعم اقتصادي حقيقياً دون تقدم في ملف التطبيع، وإعادة هندسة المشهد السياسي الداخلي، وإقصاء تيار بعينه.
وهكذا يجد السودان نفسه أمام معادلة شديدة التعقيد:
- الانحياز إلى الشرق يوفر السلاح، لكنه يقود إلى عزلة مالية خانقة.
- الانحياز إلى الغرب قد يجلب دعماً اقتصادياً، لكنه يهدد بفقدان الغطاء العسكري وزعزعة الداخل.
ومن هنا، يصبح الاصطفاف الكامل خياراً مدمراً، وتغدو المناورة بين الشرق والغرب خيط نجاة دقيقاً، لكنه لا غنى عنه.
عدم الانحياز الذكي ورهان الداخل
في خضم هذه الحسابات الدولية، يبرز مسار ثالث أكثر واقعية: عدم الانحياز الفعّال. وهو ليس حياداً سلبياً كما في ستينيات القرن الماضي، بل إستراتيجية تقوم على الانفتاح الانتقائي والمداورة الدبلوماسية.
ويعني ذلك:
- تعاوناً اقتصادياً عميقاً مع الصين دون الارتهان الكامل لها.
- شراكة أمنية مع روسيا دون التحول إلى بوابة دائمة لها على البحر الأحمر.
- انفتاحاً محسوباً على الغرب دون الوقوع في فخ الشروط الثقيلة التي قد تشعل الداخل.
- بناء دور إقليمي يستند إلى الجغرافيا لا إلى الأيديولوجيا.
بهذه المقاربة، يمكن للسودان أن يتحول من ساحة صراع إلى لاعب يوظف التنافس الدولي لصالحه.
غير أن نجاح هذا المسار يبقى مرهوناً بحسم المعركة الأهم: معركة الداخل. فالتحدي الحقيقي لا يكمن في واشنطن أو بكين أو موسكو، بل في قدرة القيادة السودانية على توحيد الجبهة الداخلية، وإعادة بناء المؤسسات، ووقف النزيف الاقتصادي، وفرض الإرادة الوطنية على القوى الإقليمية المتدخلة.
من دون جبهة داخلية متماسكة، تصبح المناورة الخارجية مقامرة خطرة قد تنهار عند أول صدمة. ومن دون قرار وطني صارم، لن تستطيع الخرطوم تحويل ثقلها الجيوسياسي إلى قوة حقيقية.
الخلاصة: المناورة قدر سياسي لا مفر منه
ما يقوم به البرهان اليوم ليس خضوعاً للغرب ولا انحيازاً للشرق، بل مناورة اضطرارية تهدف إلى جمع السلاح من جهة، والشرعية من جهة ثانية، والمساعدات من جهة ثالثة، دون دفع الثمن الكامل لأي طرف.
إنها محاولة لاستثمار موقع السودان الفريد في صراع الهيمنة على البحر الأحمر، وتحويل الأزمة إلى ورقة تفاوض كبرى. غير أن هذه اللعبة عالية المخاطر لن تؤتي ثمارها ما لم يُعاد بناء الداخل أولاً.
في النهاية، لا تحدد الدول الكبرى مصائر الأمم بقدر ما تحددها إرادة شعوبها.
وقدرة السودان على الخروج من النفق لا تعتمد فقط على مهارة التوازن الدولي، بل على قوة البيت الداخلي، وقدرة القيادة على فرض رؤيتها في مواجهة من يسعون إلى رسم مستقبل السودان من الخارج.







