الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل مستقبل البحث الصحي: “غوغل” في قلب المعادلة

في عصر باتت فيه شبكة الإنترنت المصدر الأول للمعلومات الصحية، وأصبح الملايين يقصدونها يوميًا للبحث عن إجابات تتعلق بصحتهم، تزداد الحاجة إلى محتوى طبي دقيق وموثوق بشكل غير مسبوق. ومع تضخم حجم هذا المحتوى وتنوع مصادره، تواجه محركات البحث، وعلى رأسها “غوغل”، تحديًا بالغًا في التوفيق بين سرعة تقديم المعلومة وضمان موثوقيتها العلمية.
من هنا، برز دور الذكاء الاصطناعي كأداة محورية في تطوير تجربة البحث الصحي، إذ استثمرت “غوغل” في تقنيات متقدمة تسعى لفهم الأسئلة الطبية المعقدة، وتنقية النتائج من المصادر غير الموثوقة، مع الاستعانة بالخبرات الطبية لبناء منظومة بحث أكثر أمانًا وموثوقية.
الذكاء الاصطناعي في خدمة الصحة العامة
على مدى السنوات الماضية، دمجت “غوغل” تقنيات الذكاء الاصطناعي في خدماتها الصحية، بداية من تحليل صور الأشعة، مرورًا بالتنبؤ بمخاطر الأمراض، وصولًا إلى تحسين جودة المعلومات التي تقدمها للمستخدمين. لكن التركيز الأكبر اليوم بات ينصب على تحسين فهم نوايا المستخدمين عند طرح أسئلتهم الطبية، وتقديم إجابات مبنية على بيانات دقيقة، مصاغة بلغة بسيطة وواضحة.
وبما أن نسبة كبيرة من عمليات البحث اليومية تتعلق بالصحة، فإن التحدي يكمن في تحديد حساسية هذه الأسئلة، خصوصًا في الحالات الطارئة أو المتعلقة بالأمراض المزمنة، أو تلك التي تتطلب مشورة طبية متخصصة.
نماذج لغوية لفهم أعمق للأسئلة الطبية
تعتمد “غوغل” على نماذج لغوية متطورة، أبرزها نموذج BERT الذي أُطلق عام 2019، والذي عزز قدرة محرك البحث على فهم السياق الكامل للجمل، بدلًا من الاكتفاء بالتحليل التقليدي للكلمات بشكل منفصل. يُعد هذا التحول محوريًا لفهم الأسئلة الطبية المركبة أو تلك التي تُصاغ بلغة غير رسمية.
فعلى سبيل المثال، إذا بحث مستخدم عن “دوخة مع ألم في الصدر”، فإن الذكاء الاصطناعي لا يكتفي بتجميع نتائج متفرقة، بل يحلل العلاقة بين الأعراض، ليقترح أسبابًا محتملة مثل مشاكل القلب أو انخفاض ضغط الدم.
كما طوّرت “غوغل” أنظمة قادرة على التمييز بين المعاني المختلفة للمصطلحات الطبية نفسها، استنادًا إلى السياق. فمصطلح مثل “ورم” قد يُشير إلى حالة حميدة أو خبيثة، وهو ما يتطلب دقة في الفهم وتحليل آلاف الدراسات الطبية لتحديد المعنى الصحيح.
وفي هذا السياق، قدّمت الشركة نموذج “Med-PaLM”، وهو أحد أوائل النماذج الذكية المصممة خصيصًا للإجابة على الأسئلة الطبية المعقدة بدقة تقارب أداء الأطباء في بعض الاختبارات. ويتميز هذا النموذج بقدرته على التعامل مع بيانات طبية متعددة، تشمل النصوص والصور الشعاعية وحتى المعلومات الجينية.
مواجهة التضليل: خوارزميات تفرز الحقائق من الخرافات
يُعد التضليل الطبي أحد أبرز التحديات على الإنترنت. وللتعامل مع هذه المشكلة، طورت “غوغل” خوارزميات تقيّم جودة المحتوى الطبي استنادًا إلى معايير صارمة، مثل وضوح المراجعة الطبية، وكشف هوية المؤلف وخبرته، وتوثيق المصادر العلمية، ومدى التوافق مع الإرشادات الصحية العالمية.
ولا تعتمد هذه الأنظمة على شهرة الموقع فقط، بل تأخذ في الاعتبار حداثة المعلومة ودقتها. كما تمنح “غوغل” الأولوية للمحتوى المحدث وفقًا لأحدث الأبحاث الطبية، وتقوم بتصفية المحتوى الذي يروج لنظريات المؤامرة أو علاجات غير مثبتة علميًا.
وتُراجع هذه السياسات بالتعاون مع مؤسسات صحية رائدة مثل منظمة الصحة العالمية (WHO)، ومايو كلينك، ومراكز السيطرة على الأمراض (CDC).
من التكنولوجيا إلى العيادة: ربط الذكاء الاصطناعي بالممارسة الطبية
رغم التطور المتسارع، تعي “غوغل” أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يكون بديلًا عن الطبيب. لذلك، عززت الشركة شراكاتها مع أطباء وباحثين لمراجعة وتحسين أداء نماذجها الذكية.
وقد ساهمت هذه الشراكات في تحسين دقة الاستجابات، خاصة في الموضوعات الطبية الحساسة مثل السرطان، الصحة النفسية، وأمراض الأطفال. كما تتعاون “غوغل” مع جامعات مرموقة مثل “هارفارد” و”ستانفورد” لتطوير أدوات تشخيصية متقدمة تجمع بين الذكاء الاصطناعي والبيانات السريرية.
حدود أخلاقية واضحة للتقنيات الطبية
رغم ما أحرزته من تقدم، تؤكد “غوغل” في كل نتائجها الصحية على ضرورة استشارة الطبيب المختص، وتُرفق تحذيرات توضح أن المعلومات المقدمة لا تُغني عن الرأي الطبي المهني.
كما وضعت سياسات صارمة تمنع الترويج للعلاجات غير المعتمدة علميًا، وتُخضع المحتوى الطبي لرقابة دورية من قبل جهات تنظيمية مستقلة.
تحديات قائمة رغم التقدم
ورغم كل هذه الجهود، لا تزال هناك مخاوف تتعلق بالخصوصية، والتحيز في الخوارزميات، والمسؤولية القانونية في حال الأخطاء، خاصة في التشخيصات الافتراضية.
إذ يتطلب تطوير النماذج الطبية الوصول إلى بيانات حساسة، ما يثير أسئلة قانونية وأخلاقية حول خصوصية المرضى. كما أن انحياز البيانات قد يؤدي إلى إهمال احتياجات فئات سكانية معينة.
في الختام
تسعى “غوغل” من خلال دمج الذكاء الاصطناعي، وفهم السياق الطبي، وتعزيز التعاون مع المجتمع الطبي، إلى إعادة تعريف تجربة البحث الصحي، وتحويلها من مجرد نتائج بحث إلى أداة معرفية داعمة للرعاية الصحية.
وبين دقة الخوارزميات وحدود الأخلاقيات، تواصل الشركة رسم ملامح مستقبل جديد يتكامل فيه الذكاء الاصطناعي مع الإنسان، لخدمة الصحة العامة بشكل أكثر إنسانية ومسؤولية.