الأخبار الدولية

التحول التاريخي لحزب العمال الكردستاني: من العمل المسلح إلى السياسة

شكّل مشهد تسليم عدد من عناصر حزب العمال الكردستاني أسلحتهم في محافظة السليمانية العراقية، بتاريخ 11 يوليو/تموز الماضي، محطة مفصلية في مسار أحد أطول النزاعات المسلحة في العصر الحديث، والذي تجاوز عمره أربعة عقود، وحصد أرواح أكثر من 40 ألف شخص.

جاء هذا التحوّل استجابة لدعوة زعيم الحزب المسجون في تركيا، عبد الله أوجلان، الذي أصدر بياناً في 27 فبراير/شباط الماضي، ممهّداً فيه لهذا التوجّه، قبل أن يُعلن الحزب رسمياً، في مايو/أيار، نبذه للعمل المسلح.

وفي تسجيل مصوّر في يونيو/حزيران، وصف أوجلان هذه الخطوة بأنها “انتقال طوعي من مرحلة الكفاح المسلح إلى مرحلة السياسات الديمقراطية والقانونية”، ما يعكس تحوّلاً جوهرياً في فلسفة الحركة ومقاربتها.

ورغم تعقيدات المشهد السياسي وتداعيات هذا التحول على مستقبل القضية الكردية، يبرز تساؤل رئيسي: ما الذي يدفع الحركات المسلحة إلى التخلي عن السلاح والانخراط في العمل السياسي؟

لماذا تتخلى الحركات المسلحة عن السلاح؟

إن قرار التخلي عن الكفاح المسلح لا يصدر في فراغ، بل يتأثر بعدة عوامل داخلية وخارجية تختلف حسب طبيعة الحركة وسياقها السياسي والعسكري. ومع ذلك، يمكن رصد بعض الملامح المشتركة في هذا النوع من التحولات.

ففي كثير من الحالات، لا يعني قرار القيادة بترك العمل المسلح بالضرورة توافقاً داخل الحركة، إذ قد تواجه القيادة رفضاً من القواعد، التي تشكّلت عقيدتها النضالية على العمل المسلح، ما يعقّد تنفيذ القرار.

يبيّن الباحث في شؤون العنف السياسي بنجامين أكوستا، في ورقة علمية محكمة، أن من أبرز الدوافع وراء هذه التحولات قناعة الحركات بأن الخيار العسكري قد استُنفد، وأنه لم يعد قادراً على تحقيق مزيد من المكاسب، ما يفتح المجال أمام تجريب أدوات سياسية بديلة.

ويضيف أكوستا أن المفارقة تكمن في أن هذه القناعة لا تنشأ من الفشل التام، بل من الشعور بتحقيق جزء من الأهداف، ما يدفع الحركة إلى البحث عن سُبل جديدة لاستكمال المسار، أبرزها السياسة.

حين تبلغ الحرب طريقاً مسدوداً

تُعتبر جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني في السلفادور مثالاً بارزاً، حيث انتهت الحرب الأهلية التي شاركت فيها في التسعينيات، عقب شعور الطرفين—الحكومة والحركة—بأن الصراع دخل نفقاً مسدوداً بلا أفق للنصر، فاختارت الحركة التحول إلى حزب سياسي عام 1992 وخوض غمار السياسة عبر صناديق الاقتراع.

ويشير كتاب “من الحركات الثورية إلى الأحزاب السياسية” إلى أن تغيرات إقليمية أو دولية، كانهيار الاتحاد السوفياتي، دفعت أيضاً بعض الحركات إلى هذا الخيار، بسبب فقدانها للدعم المالي والعقائدي. من أبرز الأمثلة في هذا السياق، حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا، الذي غيّر مساره نحو المفاوضات بعد انكشاف غطاء الدعم.

ويرى مؤلفو الكتاب أن العامل المادي يلعب دوراً حاسماً، فالحركات قد تجد نفسها مضطرة لوقف الكفاح المسلح نتيجة تراجع التمويل أو انقطاع خطوط الإمداد.

وفي أحيان أخرى، يكون التحول نحو السياسة محاولة لإطالة عمر الحركة، أو للتماهي مع متغيرات تجعل الاستمرار في العمل المسلح مجازفة تهدد بقاءها أو تقلّص من أهميتها.

أمثلة بارزة على التحول من السلاح إلى السياسة

1. حركة رينامو في موزمبيق

تأسّست عام 1977 بدعم من جهاز الاستخبارات في روديسيا وجنوب أفريقيا لمناهضة النظام الماركسي لحكومة “فريليمو”. لكن رينامو سرعان ما أعادت تشكيل نفسها كتحالف للمهمّشين وسعت لإضفاء شرعية سياسية على وجودها.

وبعد مفاوضات شاقة، تحولت إلى حزب سياسي رسمي بموجب اتفاق السلام عام 1992، رغم رفض الحكومة المبدئي اعتبارها أكثر من مجرد ميليشيا. وعانت رينامو لاحقاً من تحديات كبيرة، أبرزها عدم الفوز في أي انتخابات رئاسية أو برلمانية، ما أدى إلى توترات متكررة مع الحكومة بين 2013 و2019.

2. الجيش الجمهوري الأيرلندي وحزب شين فين

منذ تأسيس الجيش الجمهوري الأيرلندي في 1919 لمناهضة الوجود البريطاني، بقي جناحه السياسي “شين فين” متردداً في دخول المعترك الانتخابي حتى أوائل الثمانينيات. لكن مع انتخاب بوبي ساندز، المعتقل السياسي، إلى البرلمان البريطاني عام 1981، تبنّت الحركة استراتيجية “البندقية وصندوق الاقتراع”.

وفي 2005، أعلن الجيش الجمهوري نزع سلاحه بالكامل، نتيجة تغيّر المشهد السياسي في أيرلندا الشمالية، حيث بات استمرار العمل المسلح يهدد المكاسب السياسية. وقد أصبح شين فين القوة السياسية الأبرز في أيرلندا الشمالية عام 2022.

3. القوات المسلحة الثورية الكولومبية “فارك”

تأسّست “فارك” عام 1964 كحركة ماركسية لينينية في كولومبيا، وسرعان ما تبنّت خطاباً سياسياً جذاباً للفلاحين، لكن تمويلها اعتمد لاحقاً على أنشطة غير شرعية.

فشلت محاولتها الأولى في خوض الانتخابات في الثمانينيات بعد حملة قمع دموية من الدولة. لكنها وجدت فرصة ثانية مع اتفاق السلام في هافانا عام 2016، حيث سلّمت سلاحها مقابل الاعتراف بها كحزب سياسي.

رغم ذلك، واجهت “فارك” صعوبات كبيرة بعد الاتفاق، تمثلت في اغتيال مئات من مقاتليها السابقين، وتراجع ثقة الشارع في حزبها السياسي، ما أبقى العلاقة بينها وبين الحكومة في حالة توتر مزمن.


خاتمة: نحو فهم أعمق لتحولات الحركات المسلحة

تُظهر هذه التجارب المتنوعة أن تخلي الحركات عن السلاح ليس قراراً آنياً أو ناتجاً عن ضغط منفرد، بل هو نتيجة تراكم ظروف داخلية وخارجية، تبدأ من تراجع الجدوى العسكرية، وتمرّ بأزمات مالية، وتصل إلى تحولات استراتيجية في بنية الحركات.

لكن، وعلى الرغم من دخول هذه الحركات معترك السياسة، فإن التجربة لا تخلو من تحديات. فالمجتمع، والدولة، وحتى القواعد الشعبية، لا يُبدون دائماً الثقة أو القبول السريع بهذا التحوّل، ما يجعل مرحلة ما بعد نزع السلاح اختباراً حقيقياً لنجاح هذه الحركات في إعادة تعريف ذاتها وغاياتها ضمن الإطار الديمقراطي.

زر الذهاب إلى الأعلى