ثقافة

إسنا… المدينة التي تنهض من الظل لتصبح جوهرة الجنوب السياحية

في عمق صعيد مصر، وتحديدًا على ضفاف النيل بمحافظة الأقصر، بدأت مدينة إسنا – تلك الجوهرة الأثرية التي طالما عاشت في ظل شقيقتها الأقصر – في استعادة مكانتها التاريخية من خلال مشروع تطوير شامل وطموح يعيد الحياة إلى ملامحها المعمارية والثقافية، ويقدمها للعالم كوجهة سياحية متكاملة.

رؤية طموحة لتحويل إسنا إلى مقصد عالمي

تسعى السلطات المحلية، بالتعاون مع شركاء دوليين، إلى إعادة رسم المشهد الحضري والثقافي للمدينة، وفق رؤية تنموية مستدامة. وفي هذا السياق، أوضح محافظ الأقصر، المهندس عبد المطلب عمارة، أن الهدف من هذه الجهود هو تحويل إسنا إلى مقصد سياحي متميز قادر على جذب شريحة واسعة من السائحين الباحثين عن تجربة مختلفة في جنوب مصر.

ومن بين المشروعات الرائدة التي تشهدها المدينة، يبرز مشروع تطوير كورنيش النيل، الذي يهدف إلى استيعاب عدد أكبر من البواخر والفنادق العائمة التي تنقل السياح عبر الرحلات النيلية الممتدة بين الأقصر وأسوان، ما سيعزز الربط السياحي بين مدن الجنوب.

اهتمام دولي ومشاركة بمعارض عالمية

التحول الذي تشهده إسنا لفت الأنظار على المستوى الدولي. ووفقًا لـ ثروت عجمي، رئيس غرفة وكالات السفر والسياحة بالأقصر، فإن المدينة ستكون حاضرة بقوة ضمن جناح محافظة الأقصر في بورصة لندن السياحية المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.

وأشار عجمي إلى أن المشروع الذي استهدف إحياء التراث وتحسين الخدمات والبنية السياحية، سيُسهم في تقديم إسنا كوجهة جديدة ومختلفة على خريطة السياحة العالمية.

وفي اعتراف دولي بقيمة المشروع، أعلن أيمن أبو زيد، رئيس الجمعية المصرية للتنمية السياحية والأثرية، عن ترشيح “مشروع إحياء مدينة إسنا التاريخية” لنيل جائزة الأغا خان الدولية للعمارة 2025، واصفًا المشروع بأنه “رائد وأعاد للمدينة سحرها وروحها”.

إحياء التراث المعماري: بين الماضي والحاضر

من أبرز محاور التطوير، ترميم المباني التراثية التي تروي قصة إسنا عبر العصور. وأوضحت رانيا عبد العاطي، منسقة مشروع الهوية البصرية لمحافظة الأقصر، أن المشروع شمل أكثر من 25 مبنى تاريخيًا تعود لأزمنة مختلفة، وتتميز بفنونها المعمارية المتفردة.

من أبرز هذه المعالم وكالة الجداوي، المسجلة على قائمة الآثار الإسلامية منذ أكثر من 70 عامًا، والتي تعود للقرن الـ13 الهجري. تقع الوكالة قرب معبد إسنا، وقد جرى ترميمها بالكامل لتستعيد هيئتها الأصلية وتتحول إلى مزار ثقافي وتعليمي يستقطب الباحثين وطلاب العمارة من داخل مصر وخارجها.

كما شمل التطوير سوق القيسارية، أحد أقدم الأسواق التقليدية في جنوب مصر، والذي لعب دورًا تاريخيًا كمركز لتبادل البضائع القادمة من السودان عبر قوافل الإبل. وقد نجح المشروع في إحياء طابع السوق التاريخي وإعادة الواجهات القديمة للمباني التي تحتفظ بها عائلات إسنا منذ أكثر من قرن.

معبد إسنا… كنوز فنية تُكتشف من جديد

في موازاة أعمال التطوير العمراني، يشهد معبد خنوم، أحد أبرز معالم المدينة، أعمال ترميم دقيقة كشفت عن نقوش وألوان وأسرار معمارية لم تُر من قبل. وقد نفذ فريق من الأثريين والمرممين المصريين هذه الأعمال، ضمن مشروع متكامل لتأهيل المعبد.

ووفقًا للدكتور مصطفى وزيري، الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للآثار، فإن عملية التنظيف كشفت عن نصوص فلسفية ونقوش دينية تسلط الضوء على تصور المصري القديم لنشأة الكون، إلى جانب تراتيل وكتابات شعرية ذات طابع روحي، مما يزيد من القيمة الأثرية والعلمية للموقع.

المعبد الذي يعود إلى العصرين البطلمي والروماني، يتكون من صالة أعمدة مذهلة تضم 34 عمودًا تتميز بنقوشها وتيجانها المتنوعة، ويُعتقد أن شامبليون – مكتشف أسرار اللغة الهيروغليفية – زاره في بدايات القرن الـ19، ما يؤكد مكانته في تاريخ علم المصريات.

السياحة الثقافية والريفية: تجربة حية وفريدة

لا يقتصر تطوير إسنا على المعالم الأثرية فقط، بل يمتد إلى إحياء الثقافة المحلية من خلال مشروع فريد لاستعادة المأكولات التراثية، حيث جرى توثيق وإحياء أكثر من 50 وصفة طعام تقليدية كانت تُقدم في المدينة، لتصبح “المائدة الإسناوية” عنصر جذب إضافي للزائرين.

وقد تم دمج هذا الجانب ضمن الأنماط السياحية الجديدة، لتشمل المدينة الآن سياحة نيلية، ثقافية، دينية، وريفية، مما يتيح للزوار تجربة متكاملة تجمع بين الأصالة والتنوع.

نحو مستقبل سياحي مشرق

من خلال هذا المشروع الطموح، تستعد إسنا لكتابة فصل جديد في تاريخها الطويل، عنوانه الانفتاح على العالم بثقة، واستقبال زوارها بتجربة أصيلة، نابضة بالحياة، تأخذهم في رحلة عبر الزمن، من حضارة الفراعنة إلى دفء الريف المصري وروح التراث الإسلامي والمسيحي.

فبعد أن كانت تعرف باسم “مدينة السمك” في عصور مضت، باتت إسنا اليوم مدينة المستقبل السياحي في جنوب مصر.

زر الذهاب إلى الأعلى