ثقافة

أنغام الحرية.. كيف تحولت موسيقى جنوب أفريقيا إلى سلاح في وجه الأبارتيد

في أواخر القرن التاسع عشر، كانت جنوب أفريقيا ترزح تحت نير الاستعمار البريطاني، تنهشها الحروب وتمزقها سياسات الفصل العنصري القاسية. وفي إحدى المدارس الصغيرة التابعة للبعثة الميثودية قرب جوهانسبرغ، جلس القس إينوك سونتونغا أمام آلة الأرغن، يسكب وجع القارة في لحن خاشع، فخرجت إلى العالم ترنيمته الخالدة “نكوسي سيكليل أفريكا” (يا رب بارك أفريقيا).

لم تكن تلك الترنيمة مجرد دعاء ديني، بل تحولت إلى صرخة جماعية في وجه الظلم، وأصبحت رمزًا مبكرًا للمقاومة الموسيقية السلمية ضد الاستعمار ونظام الأبارتيد، تردّدها حناجر الآلاف في افتتاح وختام اجتماعات حزب المؤتمر الوطني الأفريقي منذ تأسيسه عام 1912، متحديًا قوانين التمييز العنصري. ومع مرور الوقت، تجاوزت الترنيمة حدود الزمان والمكان، فتبنتها خمس دول أفريقية نشيدًا وطنيًا، لتصبح أيقونة للمقاومة ووحدة القارة.

أنغام المقاومة

لطالما كانت الموسيقى في جنوب أفريقيا مرآة لتاريخ نضالي طويل، إذ تجاوزت وظيفتها الترفيهية لتتحول إلى سلاح ناعم ضد الأبارتيد، الذي حكم البلاد بقبضة من حديد لأكثر من أربعة عقود. وسط التنوع الثقافي الفريد، برزت أنماط موسيقية عديدة مثل الكوايتو، الأفرو هاوس، الأمابيانو، الجاز، الروك، وأغاني الإنجيل، لكن خلف هذا التنوع برز تيار خاص هو “أغاني المقاومة والحرية”، المستمد من موسيقى الجوقة المحلية (الماكوايا) الممزوجة بالترانيم المسيحية.

كانت هذه الأغاني تُصاغ بكلمات ظاهرها بريء لكن باطنها مليء برسائل احتجاج مشفرة، في تحدٍ للرقابة الصارمة. وكما توضح الباحثة ميشيلا فيرشبو، فقد لعبت موسيقى التحرير دورًا محوريًا في إشعال جذوة النضال وتوحيد الصفوف، حتى تحولت إلى فعل جماعي يُعرّي الظلم ويدفع نحو التغيير السياسي.

الأغنية موقف.. والحفل قرار سياسي

في عام 1954، دعا الأسقف الأنجليكاني تريفور هدليستون إلى مقاطعة ثقافية شاملة للنظام العنصري. ومع عام 1968، أصدرت الأمم المتحدة قرارًا يدعو إلى قطع الروابط الثقافية والرياضية والتعليمية مع حكومة بريتوريا. هذا الموقف زاد الضغط على الفنانين العالميين لعدم التعامل مع مؤسسات النظام.

لكن التوتر بلغ ذروته في أواخر الثمانينيات حين سجل الفنان الأميركي بول سايمون ألبومه الشهير “Graceland” داخل جنوب أفريقيا، متعاونًا مع موسيقيين سود، في خطوة اعتُبرت خرقًا للمقاطعة. ورغم الجدل، قاد الموسيقي هيو ماسيكيلا مبادرة لتوظيف هذه التجربة فنيًا، بمزج أغاني الألبوم مع أعمال رموز النضال الغنائي مثل ميريام ماكيبا، في محاولة لتحقيق توازن بين المبدأ الأخلاقي وطموح الفنانين المحليين.

من الأحياء المهجرة إلى الميادين الدامية

وثّقت الأغاني محطات مأساوية، مثل تهجير سكان حي صوفيا تاون عام 1955، حين هُدم الحي ورُحّل أكثر من 60 ألف شخص قسرًا. فجاء الرد الفني سريعًا بأغنية “ميدولاندز” التي تحولت إلى نشيد غضب وأمل، خاصة بعد أدائها بصوت ماكيبا، التي خلدت أيضًا الحي في أغنيتها الحزينة “Sophiatown Is Gone”.

وفي 21 مارس/آذار 1960، وقعت مذبحة شاربفيل، حين أطلقت الشرطة النار على مظاهرة سلمية ضد قوانين المرور العنصرية، فقتلت 69 شخصًا. هذه الجريمة دفعت فنانين مثل ماكيبا وماسيكيلا وعبد الله إبراهيم إلى تكثيف أعمالهم المناهضة للأبارتيد، رغم الرقابة المشددة التي حظرت أي محتوى موسيقي يُعتبر “تحريضيًا”.

الموسيقى كذراع للنضال

مع تصاعد القمع في السبعينيات، تأسست فرق مثل مايبوي وأماندلا التي جابت العالم بأكثر من 200 عرض، لتصبح صوت المؤتمر الوطني الأفريقي في المنفى، ناقلة معاناة شعبها إلى جمهور دولي محروم من سماعها في الداخل.

أما هيو ماسيكيلا، فخلد مجزرة سويتو عام 1976 بأغنية “سويتو بلوز” التي غنتها ماكيبا، كما ألّف أغنية “أعيدوه إلى الوطن (نيلسون مانديلا)” التي تحولت إلى نشيد عالمي للمطالبة بإطلاق سراح الزعيم الأسير.

إرث خالد

تُعد “نكوسي سيكليل أفريكا” النشيد غير الرسمي للقارة، ورمزًا للوحدة والأمل. وفي عام 1994، أصدر مانديلا قرارًا باعتماد جزء منها نشيدًا وطنيًا مشتركًا لجنوب أفريقيا، تكريمًا لإرثها النضالي. وفي 1996، كشف مانديلا الستار عن نصب تذكاري للقس سونتونغا، مانحًا إياه وسام الخدمة المتميزة (الذهبي) بعد وفاته، اعترافًا بدوره في رسم ملامح الحرية الأفريقية.

وهكذا، يبقى تاريخ الموسيقى في جنوب أفريقيا شاهدًا على أن اللحن قد يكون أحيانًا أبلغ من الرصاصة، وأن الأغنية يمكن أن تُسقط جدار الظلم قبل أن يسقط السلاح.

زر الذهاب إلى الأعلى