“أسرار خزنة”.. البادية الأردنية بين دفء التراث وصدمة الحداثة في مجموعة قصصية لهدى الأحمد

تُعد المجموعة القصصية “أسرار خزنة” للكاتبة هدى الأحمد، والصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية، من أوائل الأعمال الأدبية التي تكرّس السرد لصوت المرأة في البادية الأردنية، عبر شخصية محورية هي “خزنة”، فتاة صغيرة تفيض حكاياتها بقيم الوفاء والتضحية، في مقابل تحولات اجتماعية عميقة، تضع الأصالة البدوية في مواجهة مباشرة مع تحديات العصر الحديث، والتكنولوجيا التي لم تطرق أبواب الخيام فقط، بل هزّت بنيتها الثقافية والاجتماعية أيضًا.
مشهد سردي يتكئ على التراث ويحاور الواقع
تتكون المجموعة من أربع عشرة قصة قصيرة، كُتبت بلغة محكية قريبة من اللهجة البدوية، وأسلوب سردي بسيط من حيث البناء، لكنه عميق من حيث المضمون. وقد استلهمت الأحمد مادتها القصصية من مخزون تراثي يعود في معظم تفاصيله إلى خمسينيات القرن الماضي، لكنها لم تكتف بعرضه، بل قامت بإحيائه عبر مفاهيم العفة، والشهامة، والنقاء، وفضيلة كتمان الأسرار – وهي القيم التي توحي بها رمزية عنوان المجموعة “أسرار خزنة”، كما أشار الناقد رائد الحواري، الذي اعتبر الكتمان ضربًا من “الصيام عن كشف مثالب الناس”.
بطلة المجموعة “خزنة”، رغم صغر سنها، تتمتع بحضور قوي وشخصية متزنة، إذ جسدت في سلوكها وتربيتها وأخلاقها صورة الفتاة البدوية الحافظة لأسرار عشيرتها، فـ”البدوي لا يفضح سره، ولا يبوح به مهما كانت الظروف”، وفقًا لثقافة المجتمع الذي انبثقت منه.
الكتابة كأداة للتغيير.. لا للقطيعة مع التراث
في حديثها لـالجزيرة نت، تؤكد الكاتبة هدى الأحمد أن “خزنة” شخصية خيالية، لكن أحداثها مستوحاة من واقع معاش. وتوضح أن الكاتبة ليست بالضرورة نسخة عن شخصياتها، وإن التقت معها في الهموم والملامح العامة، قائلة:
“عزفت في المجموعة على نوتة صحراوية، فيها من الوحشة والسلام، كما فيها من الأمان والخوف… الكتابة ليست دعوة للانقلاب على التراث البدوي، بل أداة للتغيير الواعي والانفتاح المحسوب”.
وتوضح أن شخصية “خزنة” لا تمثّل تمردًا على التقاليد، بل تجسيدًا للقوة التي تفرضها الظروف. هي فتاة فقدت والدتها في سن مبكرة، وواجهت ضغوطًا اجتماعية، منها محاولة تزويجها لابن خالتها، لكنها واجهت مصيرها بشجاعة، وعبّرت عن رفضها في مواقف شكلت مفاصل حاسمة في حياتها.
رحلة خروج إلى النور بعد صبر وانتظار
عن كواليس النشر، تكشف الأحمد أن المجموعة استغرقت منها أكثر من خمسة أشهر في الكتابة، لكنها بقيت في أدراج وزارة الثقافة لأكثر من عام، قبل أن يتم اعتمادها ونشرها بدعم رسمي بالكاد غطى تكاليف الطباعة. تصف التجربة بأنها كانت مرهقة نفسيًا، لكنها تجد في صدور المجموعة وتتويجها بنجاح نوعًا من الولادة الأدبية المغايرة.
رصد أثر التكنولوجيا على المجتمع البدوي
في أحد أبرز محاور المجموعة، ترصد الأحمد بدقة صدمة التكنولوجيا لدى المجتمعات البدوية، عبر سرد ساخر أحيانًا ومؤلم أحيانًا أخرى. ففي قصة طريفة، تعبر والدة “خزنة” عن غيرتها من صوت مذيعة في الراديو، فتحطم الجهاز عن بكرة أبيه، ظنًا منها أن زوجها مغرم بصوتها. هذا المشهد يلخص الفجوة الحضارية العميقة التي نشأت بين البداوة والتكنولوجيا في النصف الثاني من القرن العشرين.
قراءة نقدية: خزنة.. الفتاة الصندوق
الناقدة الأكاديمية إنعام زعل القيسي ترى في “خزنة” شخصية محورية تنضح بالحياة، وتقول إنها بمثابة “الصندوق الذي تُحفظ فيه الأسرار الثمينة”. وتشير إلى أن الكاتبة نجحت في إبراز الشخصية النسوية البدوية بكل تفاصيلها الإنسانية والاجتماعية، مؤكدة أن الأحمد “تحفر في عمق التراث، وتبعث الماضي في مخيلة القارئ بنكهة واقعية مشبعة بالحنين”.
وتلفت القيسي إلى قصة “البئر الغربي”، التي تستحضر في مضمونها حكاية أوردها ابن بطوطة في رحلته عن سكان “ذيبة المهل” (جزر المالديف حاليًا)، لتدلل على غنى الموروث الثقافي الذي استندت إليه المجموعة.
نحو مشروع أدبي جديد
في ختام حديثها، تكشف الأحمد عن قرب صدور مجموعتها القصصية الجديدة بعنوان “امرأة قادمة من البعيد”، والتي ستتوسع فيها في طرح قضايا المرأة وعلاقتها بالرجل ضمن فضاءات سردية جديدة، ولكن دون مساس بخصوصية المرأة وكينونتها.
خلاصة:
تقدم “أسرار خزنة” قراءة مختلفة لحياة المرأة في البادية الأردنية، عبر حكايات تمزج بين العاطفة والبساطة والعمق، وتفتح نافذة أدبية مهمة لرؤية المرأة البدوية من الداخل، في علاقتها بذاتها ومجتمعها وتاريخها. وتأتي المجموعة كجسر بين الماضي والحداثة، حيث تظل خزنة شاهدة على صراع القيم، ومحافظة على أسرار لا تزال تحيا في ضمير الصحراء.