ثقافة

أبو ذؤيب الجديد.. حين تتحول الفجيعة إلى نشيدٍ للصبر ومجدٍ للفقد

منذ أن ودّع أبو ذؤيب الهذلي أبناءه الخمسة ذات فجيعةٍ طاعونية، تحوّلت عينُه إلى مرآة للحزن الخالد، وترنيمة تتناقلها القرون في كل مرثيةٍ موجعة، وسلطانٍ يعبث به الزمن، تتقاذف لهب فجيعته أيدي السنين على صدور الآباء الثكالى، والأمهات المنكوبات.

كان هذا الصحابي الجليل، البدويّ النقيّ، الذي تنضح لغته بعبق الضاد، ويختزن ديوانه نفائس الذائقة والشعر، قد نُكِّب بفقد أبنائه جميعًا وهو في سفر جهادٍ بشمال إفريقيا، ليتوَّج ملكًا للوجع، وتاج الفقد على رأسه من دمعٍ ولهيب.

لكن أبو ذؤيب الهذلي، لم يلبث أن تقهقر أمام فجيعة أدهى وأمر، حين طالعنا النبأ المُفجِع: الحاج إبراهيم أبو مهادي، الذي فقد أبناءه الستة دفعةً واحدة، في غارة إسرائيلية غادرة باغتتهم بلا إنذار، وهم متجهون إلى مركزٍ يُعد وجبات إغاثية لسكان القطاع المحاصر، حيث تطوعوا في عملٍ خيريّ يتنفس من قلب النار.

أبو ذؤيب الجديد.. الحزن مقاومة

هتف أبو ذؤيب ذات مساء، مجيبًا قرينته المفجوعة:

أمن المنون وريبها تتوجع… والدهر ليس بمعتب من يجزعُ
قالت أمامة ما لجسمك شاحبا؟… منذ ابتذلت ومثل مالك ينفعُ!
أم ما لجنبك لا يلائم مضجعا… إلا أقض عليك ذاك المضجعُ
فأجبتُها أن ما لجسمي أنه… أودى بني من البلاد فودعوا

ومثلُه، يقف أبو مهادي، وقد أُسقط في يديه، يتلفع حزنه، وتنهار جدران بيته على غياب الأبناء الستة الذين خطفهم صاروخ بلا رحمة، لكنه لا يصرخ، بل يلوذ بالصبر، مرددًا كلمات أبي ذؤيب الخالدة:

وتجلدي للشامتين أريهم… أني لريب الدهر لا أتضعضع

غير أن الحزن في قلوب الآباء يشق طريقه كما وصفه الهذلي:

فَالعَينُ بَعدَهُمُ كَأَنَّ حِداقَها… سُمِلَت بشوك فهي عورٌ تدمع
حتى كأني للحوادث مَرْوة… بصفا المُشَرَّقِ كل يوم تُقرَعُ

ولئن كان أبو ذؤيب قد عجز عن رد الموت الزؤام، فقال:

وَلَقَد حَرَصتُ بِأَن أُدافِعَ عَنهُمُ… فَإِذا المَنِيِّةُ أَقبَلَت لا تُدفَعُ

فإن أبا مهادي، رأى المنية ذاتها تهوي على أجساد أبنائه الستة، فيحولهم زئيرُ صاروخ إلى أشلاء متناثرة، تُقص من قصةٍ كان يكتبها بأحلامهم، قبل أن تُختم بغدر السماء.

من بكاء إلى بطولة.. من ألم إلى وصية

أعاد أبو ذؤيب تأمل الحياة والموت، فاستعرض مواكب الراحلين، من فرسان الجبال، إلى قطعان الوحوش، إلى من قضى نحبه بسهمٍ لا يخطئ، وكلهم أضحوا ضحايا لغولٍ لا يشبع.

أما أبو مهادي، فكان يحمل أسماءهم الستة بوقار: أحمد، محمود، محمد، مصطفى، زكي، وعبد الله، ومعهم صديقهم عبد الله الهباش. ربّاهم على الصمود، وانتظر منهم أن يسندوا شيبته، فخذلته صواريخ الموت، لكن لم تخذله عزيمته. وقد اختار أن يؤمّ صلاة الجنازة عليهم بنفسه، في مشهدٍ يعلو فوق الألم:

“الحمد لله الذي منحني القوة كي أصلي عليهم، وهذه كرامة من الله، أرجو أن يتقبلهم في عليين مع الشهداء والصالحين.”

ثم ينهض من ركام المأساة، معلنًاها: “ما كتب الله لنا هو ما يكون، ونحن قوم لا نركع إلا لله… لن نتخلى عن شبرٍ من أرضنا، وربنا أعطانا الأمانة واستردها، ونسأل الله أن يتقبلهم جميعا في الفردوس الأعلى.”

غزة.. أنشودة الحياة وسط الموت

لم يكن أبو مهادي الأول، وقد لا يكون الأخير. فقبل أن تُغرس أنياب الغول الصهيوني في خاصرة فلسطين، كانت مآسي العائلات تتناسل، من بيت إلى بيت، ومن جيل إلى جيل.

عائلة سالم، على سبيل المثال، فقدت 237 شهيدًا من أبنائها، مزّقتهم نار الاحتلال شمالًا وجنوبًا. وفي الأرقام الرسمية، أُبيدت أكثر من 2270 عائلة بالكامل، ولم ينجُ منها سوى فرد واحد، وأُفنيت أكثر من 3400 عائلة لم يبق منها إلا فردان، كما حدث لبيت أبو مهادي.

فأبو مهادي ليس إلا مرآة لآلاف الصور، يُعيد فيها التاريخ صدى حزن أبي ذؤيب، ويستحضر صبر الخنساء، لأن الألم هنا لا حدود له، والصمود أوسع من كل مفردات الرثاء، وكل فصول الحقد الإسرائيلي.

ومع كل هذا، تبقى غزة شامخة، تنشد في قلب الألم:

“وتجلدي للشامتين أريهم… أني لريب الدهر لا أتضعضع”.

زر الذهاب إلى الأعلى